فصل: تفسير الآيات رقم (13- 14)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


تفسير الآية رقم ‏[‏9‏]‏

‏{‏قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ ‏(‏9‏)‏‏}‏

بعد أن أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يجيب المشركين بأنه بشَر يُوحَى إليه فما يملك إلجاءَهم إلى الإِيمان أمره عقب ذلك بمعاودة إرشادهم إلى الحق على طريقة الاستفهام عن كفرهم بالله، مدمِجاً في ذلك تذكيرهم بالأدلة الدالة على أن الله واحد، بطريقة التوبيخ على إشراكهم به في حين وضوح الدلائل على انفراده بالخلق واتصافه بتمام القدرة والعلم‏.‏

فجملة ‏{‏قُلْ أئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ‏}‏ إلى آخرها استئناف ابتدائي ثان هو جواب ثان عن مضمون قولهم‏:‏ ‏{‏إننا عاملون‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 5‏]‏‏.‏

وهمزة الاستفهام المفتتح بها الكلام مستعملة في التوبيخ فقوله‏:‏ ‏{‏أئِنَّكُم لَتَكْفُرُونَ‏}‏ كقوله في سورة البقرة ‏(‏28‏)‏ ‏{‏كيف تكفرون باللَّه‏}‏‏.‏

وفي الافتتاح بالاستفهام وحرفي التوكيد تشويق لتلقي ما بعد ذلك لدلالة ذلك على أن أمراً مُهمّاً سيُلقى إليهم، وتوكيد الخبر ب ‏(‏إنَّ‏)‏ ولام الابتداء بعد الاستفهام التوبيخي أو التعجيبي استعمال وارد كثيراً في الكلام الفصيح، ليكون الإِنكار لأمر محقق، وهو هنا مبني على أنهم يحسبون أنهم مهتدون وعلى تجاهلهم الملازمةَ بين الانفراد بالخلق وبين استحقاق الإِفراد بالعبادة فأُعلموا بتوكيد أنهم يكفرون، وبتوبيخهم على ذلك، فالتوبيخ المفاد من الاستفهام مسلط على تحقيق كفرهم بالله، وذلك من البلاغة بالمكانة العليا، واحتمالُ أن يكون التوكيد مسلطاً على التوبيخ والإِنكار قلب لنظام الكلام‏.‏

ومجيء فعل «تكفرون» بصيغة المضارع لإِفادة أن تجدد كفرهم يوماً فيوماً مع سطوع الأدلة التي تقتضي الإِقلاع عنه أمر أحق بالتوبيخ‏.‏ ومعنى الكفر به الكفر بانفراده بالإِلهية، فلما أشركوا معه آلهة كانوا واقعين في إبطال إلهيته لأن التعدد ينافي حقيقة الإِلهية فكأنهم أنكروا وجوده لأنهم لمّا أنكروا صفات ذاته فقد تصوروه على غير كنهه‏.‏

وأدمج في هذا الاستدلال بيان ابتداء خلق هذه العوالم، فمحل الاستدلال هو صلة الموصول، وأما ما تعلق بها فهو إدماج‏.‏

و ‏{‏الأرض‏}‏‏:‏ هي الكرة الأرضية بما فيها من يابس وبحار، أي خلق جِرمها‏.‏ واليومان‏:‏ تثنية يوم، وهو الحصة التي بين طلوع الشمس من المشرق وطلوعها ثانية‏.‏ والمراد‏:‏ في مدة تساوي يَومين مما عرفَه الناس بعد خَلق الأرض لأن النور والظلمة اللذان يُقدَّر اليوم بظهورهما على الأرض لم يظهرا إلا بعد خلق الأرض، وقد تقدم ذلك في سورة الأعراف‏.‏

وإنما ابتُدئ بذكر خلق الأرض لأن آثاره أظهرُ للعيان وهي في متناول الإِنسان، فلا جرم أن كانت الحجة عليهم بخلق الأرض أسبقَ نهوضاً‏.‏ ولأن النعمة بما تحتوي عليه الأرض أقوى وأعمّ فيظهر قبح الكفران بخالقها أوضح وأشنع‏.‏

وعطْفُ ‏{‏وَتَجْعَلُون لَهُ أندَاداً‏}‏ على ‏{‏لتكفرون‏}‏ تفسيرٌ لكفرهم بالله‏.‏ وكان مقتضى الظاهر أن في التفسير لا يعطف فعدل إلى عطفه ليكون مضمونه مستقلاً بذاته‏.‏

والأنداد‏:‏ جمع نِدّ بكسر النون وهو المثل‏.‏ والمراد‏:‏ أنداد في الإِلهية‏.‏

والتعبير عن الجلالة بالموصول دون الاسم العلم لما تؤذن به الصلة من تعليل التوبيخ، لأن الذي خلق الأرض هو المستحق للعبادة‏.‏

والإشارة ب ‏{‏ذلك رَبُّ العالمين‏}‏ إلى «الذي خلق الأرض في يومين» وفي الإشارة نداء على بلادة رأيهم إذ لم يتفطنوا إلى أن الذي خلق الأرض هو رب العالمين لأنه خالق الأرض وما فيها، ولا إلى أن ربوبيته تقتضي انتفاء الند والشريك، وإذا كان هو رب العالمين فهو رب ما دون العالمين من الأجناس التي هي أحط من العقلاء كالحجارة والأخشاب التي منها صُنععِ أصنامهم‏.‏ وجملة ‏{‏ذلك رَبُّ العالمين‏}‏ معترضة بين المعطوفات على الصلة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏

‏{‏وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ‏(‏10‏)‏‏}‏

عطف على فعل الصلة لا على معمول الفعل، فجملة ‏{‏وَجَعَلَ فِيهَا رواسي‏}‏ الخ صلة ثانية في المعنى، ولذلك جيء بفعل آخر غير فعل ‏(‏خلق‏)‏ لأن هذا الجعل تكوين آخر حصل بعد خلق الأرض وهو خلق أجزاء تتصل بها إما من جنسها كالجبال وإما من غير جنسها كالأقوات ولذلك أعقب بقوله‏:‏ ‏{‏فِي أرْبَعَةِ أيَّامٍ‏}‏ بعد قوله‏:‏ ‏{‏فِي يَوْمَيْنِ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 9‏]‏‏.‏

والرواسي‏:‏ الثوابت، وهو صفة للجبال لأن الجبال حجارة لا تنتقل بخلاف الرمال والكثبان، وهي كثيرة في بلاد العرب‏.‏ وحذف الموصوف لدلالة الصفة عليه كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن آياته الجواري في البحر‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 32‏]‏ أي السفن الجواري‏.‏ وقد تقدم تفسيره عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم‏}‏ في سورة الأنبياء ‏(‏31‏)‏‏.‏

ووصفُ الرواسي ب ‏{‏مِن فَوْقِهَا‏}‏ لاستحضار الصورة الرائعة لمناظر الجبال، فمنها الجميل المنظر المجلّل بالخضرة أو المكسوّ بالثلوج، ومنها الرهيب المرأى مثل جبال النار ‏(‏البراكين‏)‏، والجبال المعدنية السود‏.‏

و ‏{‏بارك فيها‏}‏ جعل فيها البَرَكة‏.‏ والبَرَكة‏:‏ الخير النافع، وفي الأرض خيرات كثيرة فيها رزق الإنسان وماشيتِه، وفيها التراب والحجارة والمعادن، وكلها بركات‏.‏ و‏{‏قدَّر‏}‏ جعل قَدْراً، أي مقداراً، قال تعالى‏:‏ ‏{‏قد جعل اللَّه لكل شيء قدراً‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 3‏]‏‏.‏ والمقدار‏:‏ النصاب المحدود بالنوع أو بالكمية، فمعنى ‏{‏قدر فيها أقواتها‏}‏ أنه خلق في الأرض القُوى التي تنشأ منها الأقوات وخلق أصول أجناس الأقوات وأنواعها من الحَبّ للحبوب، والكَلأ والكمْأة، والنَّوى للثمار، والحرارةِ التي يَتأثر بها تولد الحيوان من الدواب والطير، وما يتولد منه الحيتان ودَوابّ البحار والأنهار‏.‏

ومن التقدير‏:‏ تقدير كل نوع بما يصلح له من الأوقات من حر أو برد أو اعتدال‏.‏ وأشار إلى ذلك قوله‏:‏ ‏{‏واللَّه أنبتكم من الأرض نباتاً‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 17‏]‏ ويأتي القول فيه، وقوله‏:‏ ‏{‏وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 81‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتاً‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 80‏]‏ الآية‏.‏

وجمع الأقوات مضافاً إلى ضمير الأرض يفيد العموم، أي جميع أقواتها وعمومُه باعتبار تعدد المقتاتين، فللدواب أقوات، وللطير أقوات، وللوحوش أقوات، وللزواحف أقوات، وللحشرات أقوات، وجُعل للإنسان جميع تلك الأقوات مما استطاب منها كما أفاده قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً‏}‏ ومضى الكلام عليه في سورة البقرة ‏(‏29‏)‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فِي أرْبَعَةِ أيَّامٍ‏}‏ فذلكة لمجموع مدة خلق الأرض جِرمِها، وما عليها من رواسي، وما فيها من القوى، فدخل في هذه الأربعة الأيام اليوماننِ اللذان في قوله‏:‏ ‏{‏فِي يَوْمَيْنِ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 9‏]‏ فكأنه قيل‏:‏ في يَومين آخرين فتلك أربعة أيام، فقوله في ‏{‏أرْبَعَة أيام‏}‏ فذلكة، وعدل عن ذلك إلى ما في نسج الآية لقصد الإِيجاز واعتماداً على ما يأتي بعدُه من قوله‏:‏ ‏{‏فقضاهن سبع سماوات في يومين‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 12‏]‏، فلو كان اليومان اللذان قضى فيهما خلق السماوات زائدين على ستة أيام انقضت في خلق الأرض وما عليها لصار مجموع الأيام ثمانية، وذلك ينافي الإِشارة إلى عِدّة أيام الأسبوع، فإن اليوم السابع يوم فراغ من التكوين‏.‏ وحكمة التمديد للخلق أن يقع على صفة كاملة متناسبة‏.‏

و ‏{‏سواء‏}‏ قرأه الجمهور بالنصب على الحال من ‏{‏أيام‏}‏ أي كاملة لا نقص فيها ولا زيادة‏.‏ وقرأه أبو جعفر مرفوعاً على الابتداء بتقدير‏:‏ هي سواء‏.‏ وقرأه يعقوب مجروراً على الوصف ل ‏{‏أيام‏.‏

وللسائلين‏}‏ يتنازعه كل من أفعال ‏{‏جعل‏}‏ و‏{‏بَارك‏}‏ و‏{‏قَدر‏}‏ فيكون ‏{‏للسائلين‏}‏ جمع سائل بمعنى الطالب للمعرفة، ويجوز أن يتعلق بمحذوف، أي بيّنا ذلك للسائلين ويجوز أن يكون ل ‏{‏السائلين‏}‏ متعلقاً بفعل ‏{‏قدر فيها أقواتها‏}‏ فيكون المراد بالسائلين الطالبين للقوت‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ‏(‏11‏)‏‏}‏

‏{‏ثم‏}‏ للترتيب الرتبي، وهي تدل على أن مضمون الجملة المعطوفة أهم مرتبة من مضمون الجملة المعطوف عليها، فإن خلق السماوات أعظم من خلق الأرض، وعوالمها أكثر وأعظم، فجيء بحرف الترتيب الرتبي بعد أن قُضِي حق الاهتمام بذكر خلق الأرض حتى يوفَّى المقتضيان حقَّهما‏.‏ وليس هذا بمقتض أن الإِرادة تعلقت بخلق السماء بعد تمام خلق الأرض ولا مقتضياً أن خلق السماء وقع بعد خلق الأرض كما سيأتي‏.‏

والاستواء‏:‏ القصد إلى الشيء تَوًّا لا يعترضه شيء آخر‏.‏ وهو تمثيل لتعلق إرادة الله تعالى بإيجاد السماوات، وقد تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً ثم استوى إلى السماء‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏29‏)‏‏.‏ وربما كان في قوله‏:‏ ‏{‏فَقَال لَهَا وللأرْضضِ ائتِيَا طَوْعاً أوْ كَرْهاً‏}‏ إشارة إلى أنه تعالى توجهت إرادته لخلق السماوات والأرض توجهاً واحداً ثم اختلف زَمن الإِرادة التنجيزي بتحقيق ذلك فتعلقت إرادته تنجيزاً بخلق السماء ثم بخلق الأرض، فعبر عن تعلق الإِرادة تنجيزاً لخلق السماء بتوجه الإرادة إلى السماء، وذلك التوجه عبر عنه بالاستواء‏.‏ ويدل لذلك قوله‏:‏ ‏{‏فَقَالَ لَهَا ولِلأرْضضِ ائْتِيَا طَوْعاً أوْ كَرْهاً قَالَتَا أتَيْنَا طآئِعِينَ‏}‏ ففعل ‏{‏ائتيا‏}‏ أمر للتكوين‏.‏

والدخان‏:‏ ما يتصاعد من الوَقود عند التهاب النار فيه‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَهِيَ دُخَانٌ‏}‏ تشبيه بليغ، أي وهي مثل الدخان، وقد ورد في الحديث‏:‏ «أنها كانت عَماء»‏.‏

وقيل‏:‏ أراد بالدخان هنا شيئاً مظلماً، وهو الموافق لما في «سفر التكوين» من قولها‏:‏ «وعلى وجه الغمر ظلمة» وهو بعيد عن قول النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن في الوجود من الحوداث إلا العَماءَ، والعماء‏:‏ سحابٌ رقيق، أي رطوبة دقيقة وهو تقريب للعنصر الأصلي الذي خَلق الله منه الموجودات، وهو الذي يناسب كوْنَ السماء مخلوقة قبل الأرض‏.‏ ومعنى‏:‏ ‏{‏وَهِيَ دُخَانٌ‏}‏ أن أصل السماء هو ذلك الكائن المشبه بالدخان، أي أن السماء كونت من ذلك الدخان كما تقول‏:‏ عمَدْتُ إلى هاته النخلة، وهي نواة، فاخترت لها أخصب تربة، فتكون مادة السماء موجودة قبل وجود الأرض‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَقَالَ لَهَا وللأرْضِ‏}‏ تفريع على فعل ‏{‏استوى إلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ‏}‏ فيكون القول موجهاً إلى السماء والأرض حينئذٍ، أي قبل خلق السماء لا محالة وقبل خلق الأرض، لأنه جعل القولَ لها مقارناً القول للسماء، وهو قول تكوين‏.‏ أي تعلّققِ القدرة بالسماء والأرض، أي بمادة تكوينهما وهي الدخان لأن السماء تكونت من العماء بجمود شيء منه سمي جلداً فكانت منه السماء وتكوّن مع السماء الماء وتكونت الأرض بيُبْس ظهر في ذلك الماء كما جاء الإِصحاح الأول من «سفر التكوين» من التوراة‏.‏

والإِتيان في قوله‏:‏ ‏{‏ائتيا‏}‏ أصله‏:‏ المجيء والإِقبال ولما كان معناه الحقيقي غير مراد لأن السماء والأرض لا يتصور أن يأتيا، ولا يتصور منهما طواعية أو كراهية إذ ليستا من أهل العقول والإدراكات، ولا يتصور أن الله يكرههما على ذلك لأنه يقتضي خروجهما عن قدرته بادئ ذي بدء تعينّ الصرف عن المعنى الحقيقي وذلك بأحد وجهين لهما من البلاغة المكانة العليا‏:‏

الوجه الأول‏:‏ أن يكون الإِتيان مستعاراً لقبول التكوين كما استعير للعصيان الإِدبارُ في قوله تعالى‏:‏

‏{‏ثم أدبر يسعى‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 22‏]‏، وقول النبي صلى الله عليه وسلم لمسيلمة حين امتنع من الإِيمان والطاعة في وفد قومه بني حنيفة «لئن أدبرت ليعقرنك اللَّه» وكما يستعار النفور والفرار للعصيان‏.‏ فمعنى ‏{‏ائتيا‏}‏ امتثلا أمر التكوين‏.‏ وهذا الامتثال مستعار للقبول وهو من بناء المجاز على المجاز وله مكانة في البلاغة، والقول على هذا الوجه مستعار لتعلق القدرة بالمقدور كما في قوله‏:‏ ‏{‏أن يقول له كن فيكون‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 82‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏طَوْعاً أوْ كَرْهاً‏}‏ كناية عن عدم البدّ من قبول الأمر وهو تمثيل لتمكن القدرة من إيجادهما على وفق إرادة الله تعالى فكلمة ‏{‏طَوْعاً أو كَرْهاً‏}‏ جارية مجرى الامثال‏.‏ و‏{‏طَوْعاً أوْ كَرْهاً‏}‏ مصدران وقعا حالين من ضمير ‏{‏ائتنا‏}‏ أي طائعين أو كارهيْن‏.‏

والوجه الثاني‏:‏ أن تكون جملة ‏{‏فَقَالَ لَهَا ولِلأرْضِ ائتنا طَوْعاً أوْ كَرْهاً‏}‏ مستعملة تمثيلاً لهيئة تعلق قدرة الله تعالى لتكوين السماء والأرض لعظَمة خلْقهما بهيئة صدور الأمر من آمر مُطاع للعبد المأذون بالحضور لعمل شاق أن يقول له‏:‏ ائت لهذا العمل طوعاً أو كرهاً، لتوقع إبائهِ من الإِقدام على ذلك العمل، وهذا من دون مراعاة مشابهة أجزاء الهيئة المركبة المشبَّهة لأجزاء الهيئة المشبه بها، فلا قول ولا مقول، وإنما هو تمثيل، ويكون ‏{‏طَوْعاً أوْ كَرْهاً‏}‏ على هذا من تمام الهيئة المشبه بها وليس له مقابل في الهيئة المشبهة‏.‏ والمقصود على كلا الاعتبارين تصوير عظمة القدرة الإِلهية ونفوذها في المقدورات دَقَّت أو جلَّت‏.‏

وأما قوله‏:‏ ‏{‏قالتا أتينا طائعين‏}‏ فيجوز أن يكون قول السماء والأرض مستعاراً لدلالة سرعة تكونهما لشبههما بسرعة امتثال المأمور المطيع عن طواعية فإنه لا يتردد ولا يتلكَّأ على طريقة المكنية والتخييل من باب قول الراجز الذي لا يعرف تعيينه‏:‏

امتَلأَ الحَوْضُ وقال قَطْنِي ***

وهو كثير، ويجوز أن يكون تمثيلاً لهيئة تكوّن السماء والأرض عند تعلق قدرة الله تعالى بتكوينهما بهيئة المأمور بعمل تقَبله سريعاً عن طواعية‏.‏ وهما اعتباران متقاربان، إلا أن القول، والإِتيان، والطوع، على الاعتبار الأول تكون مجازات، وعلى الاعتبار الثاني تكون حقائق وإنما المجاز في التركيب على ما هو معلوم من الفرق بين المجاز المفرد والمجاز المركب في فن البيان‏.‏

وإنما جاء قوله‏:‏ ‏{‏طَآئِعِينَ‏}‏ بصيغة الجمع لأن لفظ السماء يشتمل على سبع سماوات كما قال تعالى إثر هذا ‏{‏فقضاهن سَبْعَ سموات‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 12‏]‏ فالامتثالُ صادر عن جَمع، وأما كونه بصيغة جمع المذكر فلأنَّ السماء والأرضَ ليس لهما تأنيث حقيقي‏.‏

وأما كونه بصيغة جمع العقلاء فذلك ترشيح للمكنية المتقدمة مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إني رأيت أحد عشر كوكباً والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 4‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

‏{‏فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ‏(‏12‏)‏‏}‏

‏{‏طَآئِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سماوات فِى يَوْمَيْنِ وأوحى فِى كُلِّ سَمَآءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السمآء الدنيا بمصابيح وَحِفْظاً ذَلِكَ‏}‏‏.‏

تفريع على قوله‏:‏ ‏{‏فَقَالَ لَهَا وللأرْضضِ ائْتِيَا‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 11‏]‏‏.‏

والقضاء‏:‏ الإِيجاد الإِبداعي لأن فيه معنى الإِتمام والحكم، فهو يقتضي الابتكار والإِسراع، كقول أبي ذؤيب الهذلي‏:‏

وعليهما مسرودتان قَضاهما *** دَاود أو صَنَعُ السوابغغِ تُبَّعُ

وضَمير ‏{‏فقضاهن‏}‏ عائد إلى السماوات على اعتبار تأنيث لفظها، وهذا تفنن‏.‏ وانتصب ‏{‏سَبْعَ سموات‏}‏ على أنه حال من ضمير «قضاهن» أو عطف بيان له، وجُوّز أن يكون مفعولاً ثانياً ل «قضاهن» لتضمين «قضاهن» معنى صيرهن، وهذا كقوله في سورة البقرة ‏(‏29‏)‏ ‏{‏فسواهن سبع سماوات‏}‏‏.‏

وكان خلق السماوات في يومين قبل أربعة الأيام التي خُلقت فيها الأرض وما فيها‏.‏ وقد بيَّنَّا في سورة البقرة أن الأظهر أن خلق السماء كان قبل خلق الأرض وهو المناسب لقواعد علم الهيئة‏.‏ وليس في هذه الآية ما يقتضي ذلك‏.‏ وإنما كانت مدة خلق السماوات السبع أقصر من مدة خلق الأرض مع أن عوالم السماوات أعظم وأكثر لأن الله خلق السماوات بكيفية أسرع فلعل خلق السماوات كان بانفصال بعضها عن بعض وتفرقع أحجامها بعضها عن خروج بعض آخر منه، وهو الذي قَرَّبه حكماء اليونان الأقدمون بما سَمَّوه صدور العقول العشرة بعضها عن بعض، وكانت سرعة انبثاق بعضها عن بعض مَعلولة لأحوال مناسبة لما تركبت به من الجواهر‏.‏ وأما خلق الأرض فالأشبه أنه بطريقة التولُّد المبطئ لأنها تكونت من العناصر الطبيعية فكان تولد بعضها عن بعض أيضاً ‏{‏وما يعلم جنود ربك إلا هو‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 31‏]‏‏.‏

وهذه الأيام كانت هي مبدأ الاصطلاح على ترتيب أيام الأسبوع وقد خاض المفسرون في تعيين مبدأ هذه الأيام، فأما كتب اليهود ففيها أن مبدأ هذه الأيام هو الأحد وأن سادسها هو يوم الجمعة وأن يوم السبت جعله الله خِلواً من الخلْق ليوافق طقوس دينهم الجاعلة يومَ السبت يوم راحة للناس ودوابّهم اقتداء بإنْهَاءِ خلق العالَمين‏.‏ وعلى هذا الاعتبار جرى العرب في تسمية الأيام ابتداء من الأحد الذي هو بمعنى أول أو واحد، واسمه في العربية القديمة ‏(‏أَول‏)‏ وذلك سرى إليهم من تعاليم اليهود أو من تعاليم أسبق كانت هي الأصل الأصيل لاصطلاح الأمتين‏.‏ والذي تشهد له الأخبار من السنة أن الله خلق آدم يوم الجمعة وأنه آخر أيام الأسبوع، وأنه خير أيام الأسبوع وأفضلها، وأن اليهود والنصارى اختلفوا في تعيين اليوم الأفضل من الأسبوع، وأن الله هدى إليه المسلمين‏.‏ قال النبي فهذا اليوم ‏(‏أي الجمعة‏)‏ هو اليوم الذي اختلفوا فيه فَهدانا الله إليه فالناسُ لنا فيه تبع اليهودُ غداً والنصارى بعد غدٍ‏.‏ ولا خلاف في أن الله خلق آدم بعد تمام خلق السماء والأرض فتعين أن يكون يومُ خلقه هو اليوم السابع‏.‏

وقد رَوى مسلم في صحيحه‏}‏ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم «أن الله ابتدأ الخلق يوم السبت»‏.‏ وقد ضعّفه البخاري وابن المديني بأنه من كلام كَعب الأحبار حدّث به أبَا هريرة وإنما اشتبه على بعض رواةِ سنده فظنه مرفوعاً‏.‏

ولهذه تفصيلات ليس وراءها طائل وإنما ألمْمنَا بها هنا لئلا يعروَ التفسير عنها فيقع من يراها في غيرِهِ في حَيْرةٍ وإنما مقصد القرآن العِبرة‏.‏

‏{‏يَوْمَيْنِ وأوحى فِى كُلِّ سَمَآءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السمآء الدنيا بمصابيح‏}‏‏.‏

‏{‏وأوحى‏}‏ عطف على ‏{‏فقضاهن‏.‏

والوحي‏:‏ الكلام الخفي، ويطلق الوحي على حصول المعرفة في نفس من يراد حصولها عنده دون قوللٍ، ومنه قوله تعالى حكاية عن زكرياء ‏{‏فأوحى إليهم‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 11‏]‏ أي أومأ إليهم بما يدل على معنى‏:‏ سَبحوا بُكرة وعشياً‏.‏ وقول أبي دُؤاد‏:‏

يَرمُون بالخُطب الطِّواللِ وتارةً *** وَحْيَ الملاَحظ خيفةَ الرُّقَباء

ثم يتوسع فيه فيطلق على إلهام الله تعالى المخلوقات لما تتطلبه مما فيه صلاحها كقوله‏:‏ ‏{‏وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتاً‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 68‏]‏ أي جَبَلها على إدراك ذلك وتطلّبه، ويطلق على تسخير الله تعالى بعض مخلوقاته لقبول أثر قدرته كقوله‏:‏ ‏{‏إذا زلزلت الأرض زلزالها‏}‏ ‏[‏الزلزلة‏:‏ 1‏]‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏بأن ربك أوحى لها‏}‏ ‏[‏الزلزلة‏:‏ 5‏]‏‏.‏

والوحي في السماء يقع على جميع هذه المعاني من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازاته، فهو أوحى في السماوات بتقادير نُظُم جاذبيتها، وتقادير سير كواكبها، وأوحى فيها بخلق الملائكة فيها، وأوحى إلى الملائكة بما يتلقونه من الأمر بما يعملون، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وهم بأمره يعملون‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 27‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏يسبحون الليل والنهار لا يفترون‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 20‏]‏‏.‏

و ‏{‏أمرها‏}‏ بمعنى شأنها، وهو يصدق بكل ما هو من ملابساتها من سكانها وكواكبها وتماسك جرمها والجاذبية بينها وبين ما يجاورها‏.‏ وذلك مقابل قوله في خلق الأرض ‏{‏وجعَلَ فِيهَا رواسي مِن فَوْقِهَا وبارك فِيهَا وقَدَّرَ فِيهَا أقواتها‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 10‏]‏‏.‏ وانتصب أمرها‏}‏ على نزع الخافض، أي بأمرها أو على تضمين أَوحَى معنى قدَّر أو أودَع‏.‏

ووقع الالتفات من طريق الغيبة إلى طريق التكلم في قوله‏:‏ ‏{‏وَزَيَّنَا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بمصابيح‏}‏ تجديداً لنشاط السامعين لطول استعمال طريق الغيبة ابتداءً من قوله‏:‏ ‏{‏بالَّذِي خَلَقَ الأرْضَ في يَوْمَينِ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 9‏]‏ مع إظهار العناية بتخصيص هذا الصنع الذي ينفع الناس ديناً ودُنيا وهو خلق النجوم الدقيقة والشهب بتخصيصه بالذكر من بين عموم ‏{‏وأوحى فِي كُلِّ سَمَآءٍ أمْرَهَا‏}‏، فما السماء الدنيا إلا من جملة السماوات، وما النجوم والشُّهُب إلا من جملة أمرها‏.‏

والمصابيح‏:‏ جمع مصباح، وهو ما يوقد بالنار في الزيت للإضاءة وهو مشتق من الصباح لأنهم يحاولون أن يجعلوه خلفاً عن الصباح‏.‏ والمراد بالمصابيح‏:‏ النجوم، استعير لها المصابيح لما يبدو من نورها‏.‏

وانتصب ‏{‏حفظاً‏}‏ على أنه مفعول لأجله لفعل محذوف دل عليه فعل ‏{‏زيَّنَّا‏}‏‏.‏ والتقدير‏:‏ وجعلنَاها حفظاً‏.‏ والمراد‏:‏ حفظاً للسماء من الشياطين المسترقة للسمع‏.‏ وتقدم الكلام على نظيره في سورة الصّافات‏.‏

‏{‏وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ العزيز‏}‏

الإِشارة إلى المذكور من قوله‏:‏ ‏{‏وَجَعَلَ فِيهَا رواسي مِن فَوْقِهَا‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 10‏]‏ إلى قوله‏:‏ وَزَيَّنَا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بمصابيح وَحِفْظاً‏}‏‏.‏ والتقدير‏:‏ وضْع الشيء على مقدار معيَّن، وتقدم نظيره في سورة يَس‏.‏ وتقدم وجهُ إيثار وصفي ‏{‏العَزِيزِ العَلِيمِ‏}‏ بالذكر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏13- 14‏]‏

‏{‏فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ ‏(‏13‏)‏ إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ‏(‏14‏)‏‏}‏

‏{‏وَثَمُودَ * إِذْ جَآءَتْهُمُ الرسل مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ‏}‏‏.‏

بعد أن قَرَعتهم الحجة التي لا تترك للشك مسرباً إلى النفوس بعدها في أَن الله منفرد بالإِلهية لأنه منفرد بإيجاد العوالم كلها‏.‏ وكان ثبوت الوحدانية من شأنه أن يزيل الريبة في أن القرآن منزَّل من عند الله لأنهم ما كفروا به إلا لأجل إعلانه بنفي الشريك عن الله تعالى، فلما استبان ذلك كان الشأن أن يفيئوا إلى تصديق الرسول والإِيماننِ بالقرآن، وأن يقلعوا عن إعراضهم المحكي عنهم بقوله في أول السورة ‏{‏فأعرض أكْثَرُهُم فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ وَثَمُودَ * إِذْ جَآءَتْهُمُ الرسل مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 4‏]‏ الخ، فلذلك جعل استمرارهم على الإِعراض بعد تلك الحجج أمراً مفروضاً كما يُفْرَض المُحال، فجيء في جانبه بحرف ‏(‏إنْ‏)‏ الذي الأصل فيه أن يقع في الموقع الذي لا جزم فيه بحصول الشرط كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفنضرب عنكم الذكر صفحاً إن كنتم قوماً مسرفين‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 5‏]‏ في قراءة من قرأ بكسر همزة ‏(‏إنْ‏)‏‏.‏

فمعنى ‏{‏فَإنْ أعْرَضُوا‏}‏ إن استمروا على إعراضهم بعد ما هديتهم بالدلائل البينة وكابروا فيها، فالفعل مستعمل في معنى الاستمرار كقوله‏:‏ ‏{‏ياأيها الذين آمنوا آمنوا باللَّه ورسوله‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 136‏]‏‏.‏

والإِنذار‏:‏ التخويف، وهو هنا تخويف بتوقع عقاب مثل عقاب الذين شابهوهم في الإِعراض خشيةَ أن يحلّ بهم ما حل بأولئك، بناء على أن المعروف أن تجري أفعال الله على سَنن واحد، وليس هو وعيداً لأن قريشاً لم تصبهم صاعقة مثلُ صاعقة عاد وثمود، وإن كانوا قد ساوَوْهما في التكذيب والإِعراض عن الرسل وفي التعللات التي تعللوا بها من قولهم‏:‏ ‏{‏لو شاء الله لأنزل ملائكة‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 24‏]‏ وأمهل الله قريشاً حتى آمن كثير منهم واستأصل كفارهم بعذاب خاص‏.‏

وحقيقة الصاعقة‏:‏ نار تخرج مع البرق تُحرق ما تصيبه، وتقدم ذكرها في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏19‏)‏‏.‏ وتطلق على الحادثة المبيرة السريعة الإهلاككِ، ولما أضيفت صاعقة هنا إلى عادٍ وثمود، وعادٌ لم تهلكهم الصاعقة وإنما أهلكهم الريح وثمودُ أهلكوا بالصاعقة فقد استُعمل الصاعقة هنا في حقيقته ومجازه، أو هو من عموم المجاوز والمقتضي لذلك على الاعتبارين قصدَ الإِيجاز، وليقع الإِجمَال ثم التفصيل بعد بقوله‏:‏ ‏{‏فأمَّا عَادٌ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 15‏]‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏بما كانوا يكسبون‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 17‏]‏‏.‏

و ‏{‏إذ‏}‏ ظرف للماضي، والمعنى مثل صاعقتهم حين جاءتهم الرسل إلى آخر الآيات‏.‏ روى ابن إسحاق في سيرته أن عتبةَ بن ربيعة كلم النبي صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من خلاففِ قومه فتلا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم ‏{‏حم تَنزِيلٌ مِنَ الرحمنن الرَّحِيم‏}‏ حتى بلغ ‏{‏فَقُلْ أنذَرْتُكُمْ صاعقة‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 1 13‏]‏ الآية، فأمسَكَ عتبةُ على فم النبي وقال له‏:‏ «ناشدتُك الله والرحم»

وضمير جاءتهم‏}‏ عائد إلى عاد وثمود باعتبار عدد كل قبيلة منهما‏.‏ وجَمْع الرسل هنا من باب إطلاق صيغة الجمع على الاثنين مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فقد صغت قلوبكما‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 4‏]‏، والقرينة واضحة وهو استعمالٌ غير عزيز، وإنما جاءهم رسولان هود وصالح‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏مِن بَيْننِ أيْدِيهم ومِن خَلْفِهِم‏}‏ تمثيل لحرص رسول كل منهم على هداهم بحيث لا يترك وسيلة يَتوسل بها إلى إبلاغهم الدين إلا توسل بها‏.‏ فمُثِّل ذلك بالمجيء إلى كل منهم تارة من أمامه وتارة من خلفه لا يترك له جهة، كما يفعل الحريص على تحصيل أمرٍ أَن يتطلبه ويعيد تطلبه ويستوعب مظانّ وجوده أو مظانّ سماعه، وهذا التمثيل نظير الذي في قوله تعالى حكاية عن الشيطان ‏{‏ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 17‏]‏‏.‏

وإنما اقتصر في هذه الآية على جهتين ولم تُستوعب الجهات الأربع كما مُثل حال الشيطان في وسوسته لأن المقصود هنا تمثيل الحرص فقط وقد حصل، والمقصود في الحكاية عن الشيطان تمثيل الحرص مع التلهف تحذيراً منه وإثارة لبُغضه في نفوس الناس‏.‏ و‏{‏أَلاَّ تعبدوا إلا الله‏}‏ تفسير لِجملة ‏{‏جَآءَتهُمُ الرُّسُلُ‏}‏ لتضمن المجيء معنى الإبلاغ بقرينة كون فاعل المجيء متصفاً بأنهم رسُل، فتكون ‏(‏أَنْ‏)‏ تفسيرية ل ‏{‏جاءتهم‏}‏ بهذا التأويل كقول الشاعر‏:‏

إِنْ تحمِلا حاجة لي خفٌ مَحْمَلُها *** تَسْتَوْجبَا مِنةً عندي بها ويَدا

أَنْ تَقرَآننِ على أسماءَ ويحكما *** مني السَّلام وأن لا تُشعرا أحدا

إذ فسر الحاجة بأن يقرأ السلام على أسماء لأنه أراد بالحاجة الرسالة، وهذا جري على رأي الزمخشري والمحققين من عدم اشتراط تقدم جملة فيها معنى القول دون حروفه بل الاكتفاء بتقدم ما أريد به معنى القول ولو لم يكن جملة خلافاً لما أطال به صاحب «مغني اللبيب» من أبحاث لا يرضاها الأريب، أو لما يتضمنه عنوان ‏{‏الرسل‏}‏ من إبلاغ رسالة‏.‏

‏{‏الله قَالُواْ لَوْ شَآءَ رَبُّنَا لاََنزَلَ ملائكة فَإِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ‏}‏

حكاية جواب عاد وثمود لرسولَيْهم فقد كان جواباً متماثلاً لأنه ناشئ عن تفكير متماثل وهو أن تفكير الأذهان القاصرة من شأنه أن يبنَى على تصورات وهمية وأقيسة تخييلية وسفسطائية، فإنهم يتصورون صفات الله تعالى وَأفعاله على غير كنهها ويقيسونها على أحوال المخلوقات، ولذلك يتماثل في هذا حالُ أهل الجهالة كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون أتواصوا به بل هم قوم طاغون‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 52، 53‏]‏، أي بل هم متماثلون في الطغيان، أي الكفر الشديد فتملي عليهم أوهامهم قضايا متماثلة‏.‏

ولكون جوابهم جَرَى في سياق المحاورة أتتْ حكاية قولهم غير معطوفة بأسلوب المقاولة، كما تقدم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 30‏]‏ فإن قول الرسل لهم‏:‏ لا تعبدوا إلا الله قد حكي بفعل فيه دلالة على القول، وهو فعل ‏{‏جاءتهم‏}‏ كما تقدم آنفاً‏.‏

فقولهم‏:‏ ‏{‏لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لأَنْزَلَ مَلائِكَةً‏}‏ يتضمن إبطال رسالة البشر عن الله تعالى‏.‏

ومفعول ‏{‏شاء‏}‏ محذوف دل عليه السياق، أي لو شاء ربنا أن يرسل إلينا لأنزل ملائكة من السماء مرسَلين إلينا، وهذا حذف خاص هو غير حذف مفعول فعل المشيئة الشائع في الكلام لأن ذلك فيما إذا كان المحذوف مدلولاً عليه بجواب ‏{‏لوْ‏}‏ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلو شاء لهداكم أجمعين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 149‏]‏، ونكتته الإِبهام ثم البيان، وأما الحذف في الآية فهو للاعتماد على قرينة السياق والإيجاز وهو حذف عزيز لمفعول فعل المشيئة، ونظيره قول المعري‏:‏

وإنْ شئتَ فازعُم أَنَّ مَن فوقَ ظهرها *** عَبيدُكَ واستَشْهِدْ إلهَكَ يَشْهَدِ

وتضمن كلامهم قياساً استثنائياً تركيبه‏:‏ لو شاء ربنا أن يرسل رسولاً لأرسل ملائكة ينزلهم من السماء لكنه لم ينزل إلينا ملائكة فهو لم يشأ أن يرسل إلينا رسولاً‏.‏ وهذا إيماء إلى تكذيبهم الرسل ولهذا فرعوا عليه قولهم‏:‏ ‏{‏فَإنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بهِ كافرون‏}‏ أي جاحدون رسالتكم وهو أيضاً كناية عن التكذيب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 16‏]‏

‏{‏فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ‏(‏15‏)‏ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ ‏(‏16‏)‏‏}‏

بعد أن حُكي عن عاد وثمود ما اشترك فيه الأمتان من الكابرة والإصرار على الكفر فصّل هنا بعض ما اختصت به كل أمة منهما من صورة الكفر، وذكر من ذلك ما له مناسبة لما حلّ بكل أمة منهما من العذاب‏.‏

والفاء تفريع على جملة ‏{‏قَالُوا لَو شَاءَ رَبُّنَا لأَنْزَلَ مَلائكَةً‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 14‏]‏ المقتضية أنهم رفضوا دعوَة رسوليهم ولم يقبلوا إرشادهما واستدلالهما‏.‏

و ‏{‏أَمَّا‏}‏ حرف شرط وتفصيل، وقد تقدم الكلام عليها عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏26‏)‏‏.‏ والمعنى‏:‏ فأما عاد فمنعهم من قبول الهدى استكبارهم‏.‏

والاستكبار‏:‏ المبالغة في الكبر، أي التعاظم واحتقار الناس، فالسين والتاء فيه للمبالغة مثل‏:‏ استجاب، والتعريف في ‏{‏الأرْض‏}‏ للعهد، أي أرضهم المعهودة‏.‏ وإنما ذُكر من مساويهم الاستكبار لأن تكبرهم هو الذين صرفهم عن اتباع رسولهم وعن توقع عقاب الله‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏بِغَيْرِ الحَقِّ‏}‏ زيادة تشنيع لاستكبارهم، فإن الاستكبار لا يكون بحق إذ لا مبرر للكبر بوجه من الوجوه لأن جميع الأمور المغريات بالكبر من العلم والمال والسلطان والقوة وغير ذلك لا تُبلغ الإِنسان مبلغ الخلوّ عن النقص وليس للضعيف الناقص حق في الكبر ولذلك كان الكبر من خصائص الله تعالى‏.‏ وهم قد اغترُّوا بقوة أجسامهم وعزة أمتهم وادعوا أنهم لا يغلبهم أحد، وهو معنى قولهم‏:‏ ‏{‏مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَةً‏}‏ فقولهم ذلك هو سبب استكبارهم لأنه أورثهم الاستخفاف بمن عداهم، فلما جاءهم هود بإنكار ما هم عليه من الشرك والطغيان عظم عليهم ذلك لأنهم اعتادوا العجب بأنفسهم وأحوالهم فكذبوا رسولهم‏.‏

فلما كان اغترارهم بقوتهم هو باعثَهم على الكفر وكان قولهم‏:‏ ‏{‏مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَةً‏}‏ دليلاً عليه خصّ بالذكر‏.‏ وإنما عطف بالواو مع أنه كالبيان لقوله‏:‏ ‏{‏فَاسْتَكْبَرُوا في الأرْضضِ بِغَيْرِ الحَقِّ‏}‏ إشارة إلى استقلاله بكونه مُوجب الإِنكار عليهم، لأن قولهم ذلك هو بمفرده منكر من القول فذُكر بالعطف على فعل «استكبروا» لأن شأن العطف أن يقتضي المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه، ويعلم أنه باعثهم على الاستكبار بالسياق‏.‏

وجملة ‏{‏أوَلَم يَرَوا أنَّ الله الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أشَدُّ مِنْهُم قُوَّةً‏}‏ جملة معترضة، والواو اعتراضية‏.‏ والرؤية علمية، والاستفهام إنكاري، والمعنى‏:‏ إنكار عدم علمهم بأن الله أشد منهم قوة حيث أعرضوا عن رسالة رسول ربهم وعن إنذاره إياهم إعراضَ من لا يكترث بعظمة الله تعالى لأنهم لو حسبوا لذلك حسابه لتوقعوا عذابَه فَلأَقْبلوا على النظر في دلائل صدق رسولهم‏.‏ وإجراءُ وصف ‏{‏الَّذِي خَلَقَهُمْ‏}‏ على اسم الجلالة لما في الصلة من الإِيماء إلى وجه الإِنكار عليهم لجهلهم بأن الله أقوى منهم فإن كونهم مخلوقين معلوم لهم بالضرورة، فكان العلم به كافياً في الدلالة على أنه أشدّ منهم قوة، وأنه حقيق بأن يحسبوا لغضبه حسابه فينظروا في أدلة صدق رسوله إليهم‏.‏

وضمير ‏{‏هُوَ أشَدُّ مِنْهُم‏}‏ ضمير فصل، وهو مفيد تقوية الحكم بمعنى وضوحه، وإذا كان ذلك الحكم محققاً كان عدم علمهم بمقتضاه أشنع وعذرهم في جهله منتفياً‏.‏

والقوة حقيقتها‏:‏ حالة في الجسم يتأتّى بها أن يعمل الأعمال الشاقة، وتطلق على لازم ذلك من القدرة ووسائل الأعمال، وقد تقدم بيان إطلاقها في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فخذها بقوة‏}‏ في سورة الأعراف ‏(‏145‏)‏، والمراد بها هنا معناها الحقيقي والكنائي والمجازي، فهو مستعمل في حقيقته تصريحاً وكنايةً، ومجازِه لما عندهم من وسائل تذليل صعَاب الأمور لقوة أجسامهم وقوة عقولهم‏.‏ والعرب تضرب المثل بِعَادٍ في أصالة آرائهم فيقولون‏:‏ أحلام عاد، قال النابغة‏:‏

أَحلامُ عادٍ وأجسامٌ مطهرة *** من المَعَقَّةِ والآفاتتِ والإِثَمِ

ويقولون في وصف الأشياء التي يقل صنع أمثالها‏:‏ عاديَّة يقولون‏:‏ بئر عاديَّة، وبناءٌ عَاديّ‏.‏

ولما كانت القوّة تستلزم سعة القدرة أسند القوة إلى الله تعالى بمعنى أن قدرته تعالى لا يستعصي عليها شيء تتعلق به إرادته تعالى، وهذا المراد هنا في قوله‏:‏ ‏{‏أَنَّ الله الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أشَدُّ مِنهم قُوَّةً‏}‏ أي هو أوسع قدرة من قدرتهم فإطلاق القوة على قدرة الله تعالى بمعنى كماللِ القدرة، أي عموم تأثيرها وتعلقها بالممكنات على وفق الإِرادة لا يستعصي على تعلق قدرته شيء ممكنٌ، وكماللِ غِناه عن التأثّر للغير، وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن اللَّه قوي شديد العقاب‏}‏ في سورة الأنفال ‏(‏52‏)‏‏.‏

وجملة ‏{‏أَوَلَمْ يَرَوا أَنَّ الله الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أشَدُّ مِنهم قُوَّةً‏}‏ معترضة بين الجمل المتعاطفة، والواو فيها اعتراضية‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَكَانُوا بئآياتنا يَجْحَدُون‏}‏ يحتمل أن المراد بالآيات معجزات رسولهم هود فلم يؤمنوا بها وأصروا على العناد ولم يذكر القرآن لهود آيات سوى أنه أنذرهم عذاباً يأتيهم من السماء، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فلما رأوه عارضاً مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 24‏]‏ فذلك من تكذيبهم بأوائل الآيات‏.‏

ويحتمل أن المراد بالآيات دلائل الوحدانية التي في دعوة رسولهم وتذكيرُهم بنعم الله عليهم كقوله‏:‏ ‏{‏واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق بسطة‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 69‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏واتقوا الذي أمدّكم بما تعلمون أمدكم بأنعام وبنين وجنات وعيون‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 132، 134‏]‏‏.‏

ودل فعل ‏{‏كانوا‏}‏ على أن التكذيب بالآيات متأصل فيهم‏.‏ ودلت صيغة المضارع في قوله‏:‏ ‏{‏يَجْحَدُونَ‏}‏ أن الجحد متكرر فيهم متجدد‏.‏ ورتب على ذلك وصف عقابهم بأن الله أرسل عليهم ريحاً فأشارت الفاء إلى أن عقابهم كان مسبباً على حالة كفرهم بصفتها فإن باعث كفرهم كان اغترارهم بقوتهم، فأهلكهم الله بما لا يترقب الناس الهلاك به فإن الناس يقولون للشيء الذي لا يُؤبه به‏:‏ هو ريح، ليريهم أن الله شديد القوة وأنه يضع القوة في الشيء الهيّن مثل الريح ليكون عذاباً وخزياً، أي تحقيراً كما قال‏:‏ ‏{‏لنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ في الحياة الدُّنْيَا‏}‏، وأي خزي أشد من أن تتراماهم الريح في الجوّ كالريش، وأن تلقِيَهم هلكَى على التراب عن بكرة أبيهم فيشاهدهم المارّون بديارهم جثثاً صرعى قد تقلصت جلودهم وبليت أجسامهم كأنهم أعجاز نخل خاوية‏.‏

والريح‏:‏ تموُّج في الهواء يحدث من تعاكس الحرارة والبرودة، وتنتقل موجاته كما تنتقل أمواج البحر والريح الذي أصاب عاداً هو الريح الدَّبور، وهو الذي يهبّ من جهة مغرب الشمس، سميت دبوراً بفتح الدال وتخفيف الباء لأنها تهبّ من جهة دُبر الكعبة قال النبي صلى الله عليه وسلم ‏{‏نُصِرتُ بالصبا وأهلكتْ عاد بالدبور‏}‏ وإنما كانت الريح التي أصابت عاداً بهذه القوة بسبب قوة انضغاط في الهواء غير معتاد فإن الانضغاط يصير الشيء الضعيف قوياً، كما شوهد في عصرنا أن الأجسام الدقيقة من أجزاء كيمياوية تسمى الذَّرة تصير بالانضغاط قادرة على نسف مدينة كاملة، وتسمى الطاقة الذَّرية، وقد نُسف بها جزء عظيم من بلاد اليابان في الحرب العامة‏.‏

والصرصر‏:‏ الريح العاصفة التي يكون لها صرصرة، أي دويّ في هبوبها من شدة سرعة تنقلها‏.‏ وتضعيف عينه للمبالغة في شدتها بين أفراد نوعها كتضعيف كبكب للمبالغة في كَبّ‏.‏ وأصله صَرَّ، أي صاح، وهو وصف لا يؤنث لفظه لأنه لا يجري إلا على الريح وهي مقدرة التأنيث‏.‏

والنحسات بفتح النون وسكون الحاء‏:‏ جمع نَحس بدون تأنيث لأنه مصدر أو اسم مصدر لفعل نَحِس كَعَلِم، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏في يوم نحس مستمر‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 19‏]‏‏.‏

وقرأه نافع وابن كثير وأبو عمرو ويعقوب بسكون الحاء‏.‏ ويجوز كسر الحاء وبه قرأ البقية على أنه صفة مشبهة من ‏(‏نَحِس‏)‏ إذا أصابه النحْس إصابة سوء أو ضر شديد‏.‏ وضده البخت في أوهام العامة، ولا حقيقة للنحس ولا للبخت ولكنهما عارضان للإنسان، فالنحس يَعرض له من سوء خِلقه مزاجه أو من تفريطه أو من فساد بيئته أو قومِه، والبخت يعرض من جراء عكس ذلك‏.‏ وبعض النوعين أمور اتفاقية وربما كان بعضها جزاءً من الله على عمل خيرٍ أو شر من عباده أو في دينه كما حل بعاد وأهل الجاهلية‏.‏ وعامة الأمم يتوهمون النحس والبخت من نوع الطِّيرَة ومن التشاؤم والتيمّن، ومنه الزجر والعيافة عند العرب في الجاهلية ومنه تَطَلُّع الحدثَان من طوالع الكواكب والأياممِ عند معظم الأمم الجاهلة أو المختلَّة العقيدة‏.‏ وكل ذلك أبطله الإسلام، أي كشف بطلانه، بما لم يسبقه تعليم من الأديان التي ظهرت قبل الإِسلام‏.‏

فمعنى وصف الأيام بالنحسات‏:‏ أنها أيام سوء شديد أصابهم وهو عذاب الريح، وهي ثمانية أيام كما جاء في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوماً‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 7‏]‏، فالمراد‏:‏ أن تلك الأيام بخصوصها كانت نحساً وأن نَحْسها عليهم دون غيرهم من أهل الأرض لأن عاداً هم المقصودون بالعذاب‏.‏ وليس المراد أن تلك الأيام من كل عام هي أيام نحس على البشر لأن ذلك لا يستقيم لاقتضائه أن تكون جميع الأمم حلّ بها سوء في تلك الأيام‏.‏

ووُصفت تلك الأيام بأنها ‏{‏نَّحِسَاتٍ‏}‏ لأنها لم يحدث فيها إلا السوء لهم من إصابة آلام الهَشْم المحقققِ إفضاؤه إلى الموت، ومشاهدة الأموات من ذويهم، وموت أنعامهم، واقتلاع نخيلهم‏.‏

وقد اخترع أهل القصص تسمية أيام ثمانية نصفُها آخر شهر ‏(‏شُباط‏)‏ ونصفها شهر ‏(‏آذار‏)‏ تكثر فيها الرياح غالباً دَعَوها أيام الحسوم ثم ركبوا على ذلك أنها الموصوفة بحسوم في قوله تعالى في سورة الحاقة ‏(‏7‏)‏ ‏{‏سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوماً‏}‏ فزعموا أنها الأيام الموافقة لأيام الريح التي أصابت عاداً، ثم ركَّبوا على ذلك أنها أيام نحس من كل عام وكَذَبوا على بعض السلف مثل ابن عباس أكاذيب في ذلك وذلك ضغْث على إبالة، وتفنن في أوهام الضلالة‏.‏

وجُمع ‏{‏نّحِسَاتٍ‏}‏ بالألف والتاء لأنه صفة لجمععِ غير العاقل وهو ‏{‏أَيَّامٍ‏}‏‏.‏

واللام في ‏{‏لنُذِيقَهُم‏}‏ للتعليل وهي متعلقة ب ‏(‏أرسلنا‏)‏‏.‏ والإِذاقة تخييل لمكنية، شُبه العذاب بطعام هُيِّئ لهم على وجه التهكم كما سمَّى عمرو بن كلثوم الغارة قِرَى في قوله‏:‏

قرينَاكُمْ فعجَّلْنَا قِراكم *** قُبيل الصُّبح مِردَاةً طَحُونا

والإِذاقة‏:‏ تخييل من ملائمات الطعام المشبه به‏.‏

والخزي‏:‏ الذلّ‏.‏ وإضافة ‏{‏عَذَابَ‏}‏ إلى ‏{‏الخِزْي‏}‏ من إضافة الموصوف إلى الصفة بدليل مقابلته بقوله‏:‏ ‏{‏ولَعَذَابُ الآخِرَةِ أخزى‏}‏، أي أشد إخزاء من إخزاء عذاب الدنيا، وذلك باعتبار أن الخزي وصف للعذاب من باب الوصف بالمصدر أو اسم المصدر للمبالغة في كون ذلك العذاب مخزياً للذي يعذب به‏.‏ ومعنى كون العذاب مخزياً‏:‏ أنه سببُ خزي فوصْفُ العذاب بأنه خزي بمعنى مُخز من باب المجازِ العقلي، ويُقدر قبل الإضافة‏:‏ لنذيقهم عذاباً خزياً، أي مُخْزياً، فلما أريدت إضافة الموصوف إلى صفته قيل‏:‏ ‏{‏عذابَ الخزي‏}‏، للمبالغة أيضاً لأن إضافة الموصوف إلى الصفة مبالغة في الاتصاف حتى جعلت الصفة بمنزلة شخص آخر يضاف إليه الموصوف وهو قريب من محسِّن التجريد فحصلت مبالغتان في قوله‏:‏ ‏{‏عَذَابَ الخِزْي‏}‏ مبالغةُ الوصف بالمصدر، ومبالغة إضافة الموصوف إلى الصفة‏.‏

وجملة ‏{‏ولَعَذَابُ الآخِرَةِ أخزى‏}‏ احتراس لئلا يحسِب السامعون أن حظ أولئك من العقاب هو عذاب الإِهلاك بالريح فعطف عليه الإِخبار بأن عذاب الآخرة أخزَى، أي لهم ولكل من عذّب عذاباً في الدنيا لغضب الله عليه‏.‏ وأخْزى‏:‏ اسم تفضيل جرى على غير قياس، وقياسه أن يقال‏:‏ أشد إخزاء، لأنه لا يقال‏:‏ خَزاه، بمعنى أخزاه، أي أهانه، ومثل هذا في صوغ اسم التفضيل كثير في الاستعمال‏.‏

وجملة ‏{‏وَهُمْ لاَ يُنْصَرُونَ‏}‏ تذييل، أي لا ينصرهم من يدفع العذاب عنهم، ولا من يشفع لهم، ولا من يخرجهم منه بعد مهلة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏17‏]‏

‏{‏وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ‏(‏17‏)‏‏}‏

بقية التفصيل الذي في قوله‏:‏ ‏{‏فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 15‏]‏‏.‏

ولما كان حال الأمتين واحداً في عدم قبول الإرشاد من جانب الله تعالى كما أشار إليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لأَنْزَلَ مَلائِكَةً‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 14‏]‏ كان الإِخبار عن ثمود بأن الله هَداهم مقتضياً أنه هدَى عاداً مثل ما هدى ثمود وأن عاداً استحبوا العَمى على الهدى مثل ما استحبت ثمود‏.‏ والمعنى‏:‏ وأما ثمودُ فهديناهم هداية إرشاد برسولنا إليهم وتأييده بآية الناقة التي أخرجها لهم من الأرض‏.‏

فالمراد بالهداية هنا‏:‏ الإرشاد التكليفي، وهي غير ما في قوله‏:‏ ‏{‏ومن يهد اللَّه فما له من مضل‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 37‏]‏ فإن تلك الهداية التكوينية لمقابلته بقوله‏:‏ ‏{‏وَمَن يُضْلِللِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 33‏]‏‏.‏

واستحبوا العمى معناه‏:‏ أحبّوا، فالسين والتاء للمبالغة مثلهما في قوله‏:‏ ‏{‏فاستكْبُروا في الأرضضِ بغيرِ الحَقِّ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 15‏]‏، أي كان العمى محبوباً لهم‏.‏ والعمى‏:‏ هنا مستعار للضلال في الرأي، أي اختاروا الضلال بكسبهم‏.‏ وضُمن ‏(‏استحبوا‏)‏ معنى‏:‏ فَضَّلوا، وَهَيَّأ لهذا التضمين اقترانُه بالسين والتاء للمبالغة لأن المبالغة في المحبة تستلزم التفضيل على بقية المحبوبات فلذلك عدّي ‏(‏استحبوا‏)‏ بحرف ‏{‏على‏}‏، أي رجحوا باختيارهم‏.‏ وتعليق ‏{‏عَلَى الهدى‏}‏ بفعل ‏(‏استحبوا‏)‏ لتضمينه معنى‏:‏ فضّلوا وآثروا‏.‏

وفُرع عليه ‏{‏فَأَخَذَتْهُم صاعقة العَذَاببِ الهُونِ‏}‏، وكان العقاب مناسباً للجُرم لأنهم استحبوا الضلال الذي هو مثل العمى، فمن يستحبه فشأنه أن يحب العمى، فكان جزاؤهم بالصاعقة لأنها تُعمِي أبصارهم في حين تهلكهم قال تعالى‏:‏ ‏{‏يكاد البرق يخطف أبصارهم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 20‏]‏‏.‏

والأخذ‏:‏ مستعار للإصابة المهلكة لأنها اتصال بالمُهلَك يُزيله من الحياة فكأنه أخذ باليد‏.‏

والصاعقة‏:‏ الصيْحة التي تنشأ في كهربائية السحاب الحامل للماء فتنقدح منها نار تهلك ما تصيبه‏.‏ وإضافة ‏{‏صاعقة‏}‏ إلى ‏{‏العَذَابِ‏}‏ للدلالة على أنها صاعقة تُعَرّف بطريق الإضافة إذ لا يُعرِّفَ بها إلا ما تضاف إليه، أي صاعقة خارقة لمعتاد الصواعق، فهي صاعقة مسخرة من الله لعذاب ثمود، فإن أصل معنى الإضافة أنها بتقدير لام الاختصاص فتعريف المضاف لا طريق له إلا بيان اختصاصه بالمضاف إليه‏.‏

و ‏{‏العذاب‏}‏ هو‏:‏ الإِهلاك بالصعق، ووصف ب ‏{‏الهُونِ‏}‏ كما وصف العذاب بالخزي في قوله‏:‏ ‏{‏لنُذيقَهُم عَذَابَ الْخِزي‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 16‏]‏، أي العذاب الذي هو سبب الهُون‏.‏ و‏{‏الهُون‏}‏‏:‏ الهوان وهو الذل، ووجه كونه هَواناً أنه إهلاك فيه مذلة إذ استُؤْصلوا عن بكرة أبيهم وتُركوا صرعى على وجه الأرض كما بيناه في مهلك عاد‏.‏ أي أخذتهم الصاعقة بسبب كسبهم في اختيارهم البقاء على الضلال بإعراضهم عن دعوة رسولهم وعن دلالة آياته‏.‏

ويعلم من قوله في شأن عاد ‏{‏وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 16‏]‏ أن لثمود عذاباً في الآخرة لأن الأمتين تماثلتا في الكفر فلم يذكر ذلك هنا اكتفاء بذكره فيما تقدم‏.‏ وهذا مُحسِّن الاكتفاء، وهو محسِّن يرجع إلى الإيجاز‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏

‏{‏وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ‏(‏18‏)‏‏}‏

الأظهر أنه عطف على التفصيل في قوله‏:‏ ‏{‏فأمَّا عَاد فاستكبروا‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 15‏]‏ وما عطف عليه من قوله‏:‏ ‏{‏وأَمَّا ثَمُودُ فهديناهم‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 17‏]‏ لأن موقع هاته الجملة المتضمنة إنجاءَ المؤمنين من العذاب بعد أن ذُكر عذاب عاد وعذاب ثمود يشير إلى أن المعنى إنجاء الذين آمنوا من قوم عاد وقوم ثَمود، فمضمون هذه الجملة فيه معنى استثناء من عموم أمتيْ عاد وثمود فيكون لها حكم الاستثناء الوارد بعد جُمل متعاقبة أنه يعود إلى جميعها فإن جملتي التفصيل هما المقصود، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولما جاء أمرنا نجينا هوداً والذين آمنوا معه برحمة منا‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 58‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏ولما جاء أمرنا نجينا صالحاً والذين آمنوا معه برحمة منا‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 66‏]‏‏.‏ وقد بينا في سورة هود كيف أنجى الله هوداً والذين آمنوا معه، وصالحا والذين آمنوا معه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وكَانُوا يَتَّقُونَ‏}‏، أي كان سنتهم اتقاء الله والنظرُ فيما ينجي من غضبه وعقابه، وهو أبلغ في الوصف من أن يقال‏:‏ والمتقين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏19- 21‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ ‏(‏19‏)‏ حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏20‏)‏ وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ‏(‏21‏)‏‏}‏

‏{‏لله يتَّقُونَ * وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَآءُ الله إِلَى النار فَهُمْ يُوزَعُونَ * حتى إِذَا مَا جَآءُوهَا شَهِدَ‏}‏ ‏{‏يَعْمَلُونَ * وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قالوا أَنطَقَنَا الله الذى أَنطَقَ كُلَّ شَئ‏}‏

لما فُرغ من موعظة المشركين بحال الأمم المكذبة من قبلهم وإنذارهم بعذاب يحلّ بهم في الدنيا كما حل بأولئك ليكون لهم ذلك عبرة فإن لاستحضار المثل والنظائر أثراً في النفس تعتبر به ما لا تعتبر بتوصف المعاني العقلية، انتقل إلى إنذارهم بما سيحلّ بهم في الآخرة فجملة ‏{‏ويَوْمَ نحشر أعداء الله‏}‏ الآيات، معطوفة على جملة ‏{‏فَقُلْ أنذَرتُكُم صاعقة‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 13‏]‏ الآيات‏.‏ والتقدير‏:‏ وأنذرهم يوم نحشر أعداء الله إلى النار‏.‏ ودل على هذا المقدر قوله‏:‏ ‏{‏أنذَرتُكُم صاعقة الخ، أي وأنذرهم يوم عقاب الآخرة‏.‏

وأعداء الله‏:‏ هم مشركو قريش لأنهم أعداء رسوله قال تعالى‏:‏ ‏{‏يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 1‏]‏ يعني المشركين لقوله بعده‏:‏ ‏{‏يخرجون الرسول وإياكم‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 1‏]‏، ولأنها نزلت في قضية كِتاب حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش يعلمهم بتهيّؤ النبي صلى الله عليه وسلم لغزو مكة ولقوله في آخر هذه الآيات ‏{‏ذلك جَزَاءُ أعْدَاءِ الله‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 28‏]‏ بعد قوله ‏{‏وقال الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَسْمَعُوا لهذا القُرءَاننِ والغَوا فِيهِ لَعَلَّكُم تَغْلِبُونَ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 26‏]‏‏.‏ ولا يجوز أن يكون المراد ب ‏{‏أعْدَاءَ الله‏}‏ جميع الكفار من الأمم بحيث يدخل المشركون من قريش دخول البعض في العموم لأن ذلك المحمل لا يكون له موقع رشيق في المقام لأن الغرض من ذكر ما أصاب عاداً وثمود هو تهديد مشركي مكة بحلول عذاب مثله في الدنيا لأنهم قد علموه ورأوا آثاره فللتهديد بمثله موقع لا يسعهم التغافل عنه، وأما عذاب عاد وثمود في الآخرة فهو موعود به في المستقبل وهم لا يؤمنون به فلا يناسب أن يجعل موعظة لقريش بل الأجدر أن يقع إنذار قريش رأساً بعذاب يعذَّبونه في الآخرة، ولذلك أطيل وصفه لتهويله ما لم يُطل بمثله حينَ التعرض لِعذاب عاد في الآخرة بقوله‏:‏ ‏{‏وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أخزى‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 16‏]‏ المكتفى به عن ذكر عذاب ثمود‏.‏ ولهذا فليس في قوله‏:‏ ‏{‏أَعْدَاءَ الله‏}‏ إظهار في مقام الإِضمار من ضمير عاد وثمود‏.‏

ويجوز أن يكون ‏{‏ويَوْمَ نحشر أعْدَاءَ الله‏}‏ مفعولاً لفعل ‏(‏واذكر‏)‏ محذوفاً مثل نظائره الكثيرة‏.‏ والحشر‏:‏ جمع الناس في مكَان لمقصد‏.‏

ويتعلق قوله‏:‏ ‏{‏إلى النَّارِ‏}‏ ب ‏{‏نَحْشر‏}‏ لتضمين ‏{‏نحشر‏}‏ معنى‏:‏ نرسل، أي نرسلهم إلى النار‏.‏

والفاء في قوله‏:‏ ‏{‏فَهُمْ يُوزَعُونَ‏}‏ عطف وتفريع على ‏{‏نحشر‏}‏ لأن الحشر يقتضي الوزْع إذ هو من لوازمه عُرفاً، إذ الحشر يستلزم كثرة عدد المحشورين وكثرةُ العدد تستلزم الاختلاط وتداخل بعضهم في بعض فلا غنى لهم عن الوزع لتصفيفهم ورَدِّ بعضهم عن بعض‏.‏ والوزْع‏:‏ كفّ بعضهم عن بعض ومنعهم من الفوضى، وتقدم في سورة النمل ‏(‏17‏)‏، وهو كناية عن كثرة المحشورين‏.‏

وقرأ نافع ويعقوب ‏{‏نَحشر‏}‏ بنون العظمة مبنياً للفاعل ونصب ‏{‏أَعْدَاءَ‏}‏‏.‏ وقرأه الباقون بياء الغائب مبنياً للنائب‏.‏

و ‏{‏حتى‏}‏ ابتدائية وهي مفيدة لمعنى الغاية فهي حرف انتهاء في المعنى وحرف ابتداء في اللفظ، أي أن ما بعدها جملة مستأنفة‏.‏ و‏{‏إذا‏}‏ ظرف للمستقبل متضمن معنى الشرط وهو متعلق بجوابه، و‏{‏ما‏}‏ زائدة للتوكيد بعد ‏{‏إذَا‏}‏ تفيد توكيد معنى ‏{‏إذَا‏}‏ من الارتباط بالفعل الذي بعد ‏{‏إذا‏}‏ سواء كانت شرطية كما في هذه الآية أم كانت لمجرد الظرفية كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا ما غضبوا هم يغفرون‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 37‏]‏‏.‏ ويظهر أن ورود ‏{‏مَا‏}‏ بعد ‏{‏إذا‏}‏ يقوّي معنى الشرط في ‏{‏إذا‏}‏، ولعلهُ يكون معنى الشرط حينئذٍ نصاً احتمالاً‏.‏ وضمير المؤنث الغائب في ‏{‏جَاءُوهَا‏}‏ عائد إلى ‏{‏النَّارِ‏}‏، أي إذا وصلوا إلى جهنم‏.‏

وجملة ‏{‏شَهِدَ عَلَيهِم سَمْعُهُم وأبصارهم‏}‏ الخ يقتضي كلام المفسرين أنها جواب ‏{‏إذا‏}‏، فاقتضى الارتباط بين شرطها وجوابها وتعليقها بفعل الجواب‏.‏ واستشعروا أن الشهادة عليهم تكون قبل أن يوجهوا إلى النار، فقدَّروا فِعلاً محذوفاً تقديره‏:‏ وسُئلوا عما كانوا يفعلون فأنكروا فشهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم، يعني‏:‏ سألهم خزنة النار‏.‏

وأحسنُ من ذلك أن نقول‏:‏ إن جواب ‏{‏إذا‏}‏ محذوف للتهويل وحذف مثله كثير في القرآن، ويكون جملة ‏{‏شَهِدَ عَلَيهِم سَمْعُهُم‏}‏ إلى آخرها مستأنفة استئنافاً بيانياً نشأ عن مفاد ‏{‏حتى‏}‏ من الغاية لأن السائل يتطلب ماذا حصل بين حشرهم إلى النار وبين حضورهم عند النار فأجيب بأنه ‏{‏شَهِدَ عَلَيهِم سَمْعُهُم وأبصارهم وَجُلُودُهُم‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏الَّذِي أنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ‏}‏ ويتضمن ذلك أنهم حوسبوا على أعمالهم وأنكروها فشهدت عليهم جوارحهم وأجسادهم‏.‏ أو أن يكون جواب ‏{‏إذا‏}‏ قوله‏:‏ ‏{‏فَإِن يَصْبِرُوا فالنَّارُ مَثْوَىً لَهُم‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 24‏]‏ الخ‏.‏

وجملة ‏{‏شَهِدَ عَلَيهِم سَمْعُهُم وأبصارهم‏}‏ وما عطف عليها معترضة بين الشرط وجوابه‏.‏ وشهادة جوارحهم وجلودهم عليهم‏:‏ شهادة تكذيب وافتضاح لأن كون ذلك شهادة يقتضي أنهم لما رأوا النار اعتذروا بإنكار بعض ذنوبهم طمعاً في تخفيف العذاب وإلا فقد علم الله ما كانوا يصنعون وشهدت به الحفظة وقرئ عليهم كتابُهم، وما أُحضروا للنار إلا وقد تحققت إدانتهم، فما كانت شهادة جوارحهم إلا زيادة خزي لهم وتحسيراً وتنديماً على سوء اعتقادهم في سعة علم الله‏.‏

وتخصيص السمع والأبصار والجلود بالشهادة على هؤلاء دون بقية الجوارح لأن للسمع اختصاصاً بتلقي دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وتلقي آيات القرآن، فسمعهم يشهد عليهم بأنهم كانوا يصرفونه عن سماع ذلك كما حكى الله عنهم بقوله‏:‏ ‏{‏وَفِي ءَاذَانِنَا وَقْرٌ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 5‏]‏، ولأن للأبصار اختصاصاً بمشاهدة دلائل المصنوعات الدالة على انفراد الله تعالى بالخلق والتدبير فذلك دليل وحدانيته في إلهيته، وشهادة الجلود لأن الجلد يحوي جميع الجسد لتكون شهادة الجلود عليهم شهادة على أنفسها فيظهر استحقاقها للحرق بالنار لبقية الأجساد دون اقتصار على حرق موضع السمع والبصر‏.‏

ولذلك اقتصروا في توجيه الملامة على جلودهم لأنها حاوية لجميع الحواس والجوارح، وبهذا يظهر وجه الاقتصار على شهادة السمع والأبصار والجلود هنا بخلاف آية سورة النور ‏(‏24‏)‏ ‏{‏يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون‏}‏، لأن آية النور تصف الذين يرمون المحصنات وهم الذين اختلقوا تهمة الإِفك ومشَوا في المجامع يُشيعونها بين الناس ويشيرون بأيديهم إلى من اتهموه إفكاً‏.‏

وإنما قالوا لجلودهم ‏{‏لِمَ شَهِدتُمْ عَلَيْنَا‏}‏ دون أن يقولوه لسمعهم وأبصارهم لأن الجلود مواجهة لهم يتوجهون إليها بالملامة‏.‏ وإجراء ضمائر السمع والبصر والجلود بصيغتي ضمير جمع العقلاء لأن التحاور معها صيرها بحالة العقلاء يومئذٍ‏.‏ ومن غريب التفسير قول من زعموا أن الجلود أريد بها الفروج ونسب هذا للسدي والفراء، وهو تعنت في محمل الآية لا داعي إليه بحال، وعلى هذا التفسير بنى أحمد الجرجاني في كتاب «كنايات الأدباء» فعدَّ الجلود من الكنايات عن الفُروج وعزاه لأهل التفسير فجازف في التعبير‏.‏

والاستفهام في قولهم‏:‏ ‏{‏لِمَ شَهِدتُمْ عَلَيْنَا‏}‏ مستعمل في الملامة وهم يحسبون أن جلودهم لكونها جزءاً منهم لا يحق لها شهادتها عليهم لأنها تجر العذاب إليها‏.‏ واستعمال الاستفهام عن العلة في معرض التوبيخ كثير كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 66‏]‏‏.‏

وقول الجلود ‏{‏أنطَقَنَا الله‏}‏ اعتذار بأن الشهادة جرت منها بغير اختيار‏.‏ وهذا النطق من خوارق العادات كما هو شأن العالم الأخروي‏.‏ وقولهم‏:‏ ‏{‏الَّذِي أنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ‏}‏ تمجيد لله تعالى ولا علاقة له بالاعتذار، والمعنى‏:‏ الذي أنطق كل شيء له نطق من الحيوان واختلاف دلالة أصواتها على وجدانها، فعموم ‏{‏كُلَّ شَيْءٍ‏}‏ مخصوص بالعرف‏.‏

‏{‏شَئ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ‏}‏

يجوز أن تكون هذه الجملة والتي عطفت عليها من تمام ما أنطق الله به جلودهم قُتفِّيَ على مقالتها تشهيراً بخطئهم في إنكارهم البعث والمصير إلى الله لزيادة التنديم والتحسير، وهذا ظاهر كون الواو في أول الجملة واو العطف فيكون التعبير بالفعل المضارع في قوله‏:‏ ‏{‏وَإلَيْهِ تُرْجَعُونَ‏}‏ لاستحضار حالتهم فإنهم ساعتئذٍ في قبضة تصرف الله مباشرة‏.‏ وأما رجوعهم بمعنى البعث فإنه قد مضى بالنسبة لوقت إحضارهم عند جهنم، أو يكون المراد بالرجوع الرجوع إلى ما ينتظرهم من العذاب‏.‏

ويجوز أن تكون هذه الجملة وما بعدها اعتراضاً بين جملة ‏{‏وَيَوْمَ نُحْشَرُ أعْدَاءَ الله إلى النَّارِ‏}‏ وجملة ‏{‏فَإنْ يَصْبِرُوا فالنَّارُ مَثْوىً لَهُم‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 24‏]‏ موجهاً من جانب الله تعالى إلى المشركين الأحياء لتذكيرهم بالبعث عقب ذكر حالهم في القيامة انتهازاً لفرصة الموعظة السابقة عند تأثرهم بسماعها‏.‏

ويكون فعل ‏{‏تُرْجَعُونَ‏}‏ مستعملاً في الاستقبال على أصله، والكلام استدلال على إمكان البعث‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 15‏]‏‏.‏ وتقديم متعلق ‏{‏تُرْجَعُونَ‏}‏ عليه للاهتمام ورعاية الفاصلة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏22- 23‏]‏

‏{‏وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ ‏(‏22‏)‏ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ‏(‏23‏)‏‏}‏

قلّ من تصدى من المفسرين لبيان اتصال هذه الآيات الثلاث بما قبلها، ومن تصدّى منهم لذلك لم يأت بما فيه مقْنع، وأوْلى كلام في ذلك كلام ابن عطية ولكنه وَجيز وغير محرر وهو وبعض المفسرين ذكروا سبباً لنزولها فزادوا بذلك إشكالاً وما أبانوا انفصالاً‏.‏ ولنبدأ بما يقتضيه نظم الكلام، ثم نأتي على ما روي في سبب نزولها بما لا يفضي إلى الانفصام‏.‏

فيجوز أن تكون جملة ‏{‏وَمَا كُنتُم تَسْتتِرُونَ‏}‏ بتمامها معطوفة على جملة ‏{‏وَهُوَ خَلَقَكُم أوَّلَ مَرَّةٍ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 21‏]‏ الخ فتكون مشمولة للاعتراض متصلة بالتي قبلها على كلا التأويلين السابقين في التي قبلها‏.‏ ويجوز أن تكون مستقلة عنها‏:‏ إمّا معطوفة على جملة ‏{‏وَيَوْمَ نَحْشُر أعْدَاءَ الله إلى النَّارِ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 19‏]‏ الآيات، وإما معترضة بين تلك الجملة وجملةِ ‏{‏فَإِنْ يَصبِرُوا فالنَّارُ مَثْوَىً لَهُم‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 24‏]‏، وتكون الواو اعتراضية، ومناسبة الاعتراض ما جرى من ذكر شهادة سمعهم وأبصارهم وجلودهم عليهم‏.‏ فيكون الخطاب لجميع المشركين الأحياء في الدنيا، أو للمشركين في يوم القيامة‏.‏

وعلى هذه الوجوه فالمعنى‏:‏ ما كنتم في الدنيا تخفون شرككم وتستترون منه بل كنتم تجهرون به وتفخرون باتباعه فماذا لومكم على جوارحكم وأجسادكم أن شهدت عليكم بذلك فإنه كان أمراً مشهوراً فالاستتار مستعمل في الإخبار مجازاً لأن حقيقة الاستتار إخفاء الذوات والذي شهدت به جوارحهم هو اعتقاد الشرك والأقوال الداعية إليه‏.‏ وحرف ‏{‏ما‏}‏ نفي بقرينة قوله بعده‏:‏ ‏{‏ولكن ظَنَنتُمْ أَنَّ الله لاَ يَعْلَمُ‏}‏ الخ، ولا بد من تقدير حرف جر يتعدى به فعل ‏{‏تَستتِرُونَ‏}‏ إلى ‏{‏أَن يَشْهَدَ‏}‏ وهو محذوف على الطريقة المشهورة في حذف حرف الجر مع ‏(‏أَنْ‏)‏‏.‏ وتقديره‏:‏ بحسب ما يدل عليه الكلام وهو هنا يقدر حرفَ مِن، أي ما كنتم تستترون من شهادة سمعكم وأبصاركم وجلودكم، أي ما كنتم تستترون من تلك الشهود، وما كنتم تتقون شهادتها، إذ لا تحسبون أن ما أنتم عليه ضائر إذ أنتم لا تؤمنون بوقوع يوم الحساب‏.‏

فأما ما ورد في سبب نزول الآية فهو حديث «الصحيحين» و«جامع الترمذي» بأسانيد يزيد بعضها على بعض إلى عبد الله بن مسعود قال‏:‏ «كنت مستتراً بأستار الكعبة فجاء ثلاثة نفر قرشيان وثقفي أو ثقفيان وقرشي قليلٌ فِقْهُ قلوبهم كثيرٌ شحْم بطونهم فتكلموا بكلام لم أفهمه، فقال أحدهم‏:‏ أترون الله يسمع ما نقول، فقال الآخر‏:‏ يَسمع إن جهرنا ولا يسمع إن أخفينا، وقال الآخر‏:‏ إن كان يسمع إذا جهرنا فهو يسمع إذا أخفينا، قال عبد الله‏:‏ فذكرتُ ذلك للنبيء صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا كُنْتم تَستَتِرُونَ أَن يَشْهَد عَلَيكُم سَمْعُكُم وَلا أبصاركم‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏فَأَصْبَحْتُم مِنَ الخاسرين‏}‏‏.‏ وهذا بظاهره يقتضي أن المخاطب به نفر معين في قضية خاصة مع الصلاحية لشمول من عسى أن يكون صدر منهم مثل هذا العمل للتساوي في التفكير‏.‏

ويجعل موقعها بين الآيات التي قبلها وبعدها غريباً، فيجوز أن يكون نزولها صادف الوقت الموالي لنزول التي قبلها، ويجوز أن تكون نزلت في وقت آخر وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بوضعها في موضعها هذا لمناسبة ما في الآية التي قبلها من شهادة سمعهم وأبصارهم‏.‏

ومع هذا فهي آية مكية إذ لم يختلف المفسرون في أن السورة كلها مكية‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ يشبه أن يكون هذا بعد فتح مكة فالآية مدنية، ويشبه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ الآية متمثلاً بها عند إخبار عبد الله إياه ا ه‏.‏ وفي كلامه الأول مخالفة لما جزم به هو وغيرهُ من المفسرين أن السورة كلها مكية، وكيف يصح كلامه ذلك وقد ذكر غيرهُ أن النفر الثلاثة هم‏:‏ عبد ياليل الثقفي وصفوان وربيعة ابنا أمية بننِ خلف، فأما عبد ياليل فأسلم وله صحبة عند ابن إسحاق وجماعة، وكذلك صفوان بن أمية، وأما ربيعة بن أمية فلا يعرف له إسلام فلا يلاقي ذلك أن تكون الآية نزلت بعد فتح مكة‏.‏ وأحسن ما في كلام ابن عطية طرفه الثاني وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ الآية متمثلاً بها فإن ذلك يُؤَوِّل قول ابن مسعود فأنزل الله تعالى الآية، ويبين وجه قراءة النبي صلى الله عليه وسلم إياها عندما أخبره ابن مسعود بأنه قرأها تحقيقاً لمثال من صور معنى الآية، وهو أن مثل هذا النفر ممن يَشهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم، وذلك قاض بأن هؤلاء النفر كانوا مشركين يومئذٍ، والآية تحق على من مات منهم كافراً مثل ربيعة بن أمية بن خلف‏.‏

وعلى بعض احتمالات هذا التفسير يكون فعل ‏{‏تَستَتِرُونَ‏}‏ مستعملاً في حقيقته أي تستترون بأعمالكم عن سمعكم وأبصاركم وجلودكم، وذلك توبيخ كناية عن أنهم ما كانوا يرون ما هم عليه قبيحاً حتى يستتروا منه وعلى بعض الاحتمالات فيما ذكر يكون فعل ‏{‏تستترون‏}‏ مستعملاً في حقيقته ومجازه، ولا يُعوزك توزيع أصناف هذه الاحتمالات بعضها مع بعض في كل تقدير تَفرِضُه‏.‏ وحاصل معنى الآية على جميع الاحتمالات‏:‏ أن الله عليم بأعمالكم ونياتكم لا يخفى عليه شيء منها إن جهرتم أو سترتم وليس الله بحاجة إلى شهادة جوارحكم عليكم وما أوقعكم في هذا الضر إلا سوء ظنكم بجلال الله‏.‏

‏{‏وذلكم ظَنُّكُمُ‏}‏ الإِشارة إلى الظن المأخوذ من فعل ‏{‏ظَنَنتُم أَنَّ الله لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ‏}‏، ويستفاد من الإِشارة إليه تمييزه أكمل تمييز وتشهير شناعته للنداء على ضلالهم‏.‏ وأتبع اسم الإِشارة بالبدل بقوله‏:‏ ‏{‏ظَنُّكُم‏}‏ لزيادة بيانه ليتمكن ما يعقبه من الخبر، والخبر هو فعل ‏{‏أَردَاكُم‏}‏ وما تفرع عليه‏.‏

و ‏{‏الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُم‏}‏ صفة ل ‏{‏ظَنُّكُمُ‏}‏‏.‏

والإِتيان بالموصول لما في الصلة من الإيماء إلى وجه بناء الخبر وهو ‏{‏أَرْدَاكُم‏}‏ وما تفرع عليه، أي الذي ظننتم بربكم ظناً باطلاً‏.‏ والعدول عن اسم الله العَلَم إلى ‏{‏بِرَبِّكُم‏}‏ للتنبيه على ضلاللِ ظنهم، إذ ظنوا خفاء بعض أعمالهم عن علمه مع أنه ربهم وخالقهم فكيف يخلقهم وتخفى عنه أعمالهم، وهو يشير إلى قوله‏:‏ ‏{‏ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 14‏]‏، ففي وصف ‏{‏بِرَبِّكُم‏}‏ إيماء إلى هذا المعنى‏.‏

والإِرداء‏:‏ الإِهلاك، يقال‏:‏ رَدِيَ كرضِي، إذا هلَك، أي مات، والإِرداء مستعار للإِيقاع في سوء الحالة بحيث أصارهم مثل الأموات فإن ذلك أقصى ما هو متعارف بين الناس في سوء الحالة وفي الإِتيان بالمسند فعلاً إفادة قصرٍ، أي ما أرداكم إلا ظنكم ذلك، وهو قصر إضافي، أي لم تُردِكم شهادة جوارحكم حتى تلوموها بل أرداكم ظنكم أن الله لا يعلم أعمالكم فلم تحذروا عقابه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَأَصبحتم مِنَ الخاسرين‏}‏ تمثيل لحالهم إذ يحسبون أنهم وصلوا إلى معرفة ما يحق أن يعرفوه من شؤون الله ووثقوا من تحصيل سعادتهم، وهم ما عرفوا الله حق معرفته فعاملوا الله بما لا يرضاه فاستحقوا العذاب من حيث ظنوا النجاة، فشبه حالهم بحال التاجر الذي استعدّ للربح فوقع في الخسارة‏.‏

والمعنى‏:‏ أنه نُعي عليهم سوء استدلالهم وفساد قياسهم في الأمور الإِلهية، وقياسُهم الغائبَ على الشاهد، تلك الأصولُ التي استدرجتهم في الضلالة فأحالوا رسالة البشر عن الله ونفوا البعث، ثم أثبتوا شركاء لله في الإِلهية، وتفرع لهم من ذلك كله قطع نظرهم عما وراء الحياة الدنيا وأمنهم من التبعات في الحياة الدنيا، فذلك جماع قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وذلكم ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بربِّكم أرداكم فأصْبَحْتُم مِنَ الخاسرين‏}‏‏.‏

واعلم أن أسباب الضلال في العقائد كلها إنما تأتي على الناس من فساد التأمل وسرعة الإِيقان وعدم التمييز بين الدلائل الصائبة والدلائل المشابهة وكل ذلك يفضي إلى الوهَم المعبر عنه بالظن السيِّئ، أو الباطل‏.‏ وقد ذكر الله مثله في المنافقين وأن ظنهم هو ظن أهل الجاهلية فقال‏:‏ ‏{‏يظنون باللَّه غير الحق ظن الجاهلية‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 154‏]‏، فليحذر المؤمنون من الوقوع في مثل هذه الأوهام فيبُوءُوا ببعض ما نُعي على عبدة الأصنام‏.‏

وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث» يريد الظن الذين لا دليل عليه‏.‏ و‏(‏أصبحتم‏)‏ بمعنى‏:‏ صرتم، لأن أصبح يكثر أن تأتي بمعنى‏:‏ صار‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏24‏]‏

‏{‏فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ ‏(‏24‏)‏‏}‏

تفريع على جواب ‏{‏إذا‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 20‏]‏ على كلا الوجهين المتقدمين، أو تفريع على جملة ‏{‏وَقَالُوا لِجُلُودِهِم لِمَ شَهِدْتُم عَلَيْنا‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 21‏]‏، أو هو جواب ‏{‏إذا‏}‏، وما بينهما اعتراض على حسب ما يناسب الوُجوه المتقدمة‏.‏ والمعنى على جميع الوجوه‏:‏ أن حاصل أمرهم أنهم قد زُجَّ بهم في النار فإن صَبَروا واستسلموا فهم باقون في النار، وإن اعتذروا لم ينفعهم العذر ولم يقبل منهم تنصل‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُم‏}‏ دليل جواب الشرط لأن كون النار مثوى لهم ليس مُسبَّباً على حصول صبرهم وإنما هو من باب قولهم‏:‏ إن قَبِل ذلك فذاك، أي فهو على ذلك الحال، فالتقدير‏:‏ فإن يصبروا فلا يَسَعُهم إلا الصبر لأن النار مثوى لهم‏.‏

ومعنى ‏{‏وَإن يَسْتَعتِبُوا‏}‏ إنْ يسألوا العُتْبَى ‏(‏بضم العين وفتح الموحدة مقصوراً اسم مصدر الإِعتاب‏)‏ وهي رجوع المعتُوب عليه إلى ما يُرضي العاتب‏.‏ وفي المَثل «مَا مُسيء من أعْتَبَ» أي من رجع عمَّا أساء به فكأنه لم يسئ‏.‏ وقلما استعملوا المصدر الأصلي بمعنى الرجوع استغناء عنه باسم المصدر وهو العتبى‏.‏ والعاتب هو اللائم، والسين والتاء فيه للطلب لأن المرء لا يسأل أحداً أن يعاتبه وإنما يسأله ترك المعاتبة، أي يسأله الصفح عنه فإذا قبل منه ذلك قيل‏:‏ أَعْتبه أيضاً، وهذا من غريب تصاريف هذه المادة في اللغة ولهذا كادوا أن يميتوا مصدر‏:‏ أعتب بمعنى رجَع وأبقوه في معنى قَبِل العُتَبى، وهو المراد في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَا هُم مِنَ المُعتَبِينَ‏}‏ أي أن الله لا يُعتبهم، أي لا يقبل منهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏25‏]‏

‏{‏وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ ‏(‏25‏)‏‏}‏

عطف على جملة ‏{‏ويَوْمَ نَحْشُر أَعْدَاءَ الله‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 19‏]‏، وذلك أنه حُكي قولهم المقتضي إعراضهم عن التدبر في دعوة الإيمان ثم ذكر كفرهم بخالق الأكوان بقوله قُل أينكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين ‏[‏فصلت‏:‏ 9‏]‏ ثم ذكر مصيرهم في الآخرة بقوله ويوم نحشر أعداء الله ثم عقب ذلك بذكر سبب ضلالهم الذي نشأتْ عنه أحوالهم بقوله‏:‏ وَقَيَّضنا لَهُم قُرَنَاءَ‏}‏‏.‏ وتخلل بين ما هنالك وما هنا أفانين من المواعظ والدلائل والمنن والتعاليم والقوارع والإيقاظ‏.‏

وَقَيَّض‏:‏ أَتاح وهيَّأ شيئاً للعمل في شيء‏.‏ والقرناء جَمْعُ‏:‏ قرين، وهو الصاحب الملازم، والقرناء هنا‏:‏ هم الملازمون لهم في الضلالة‏:‏ إمَّا في الظاهر مثلُ دعاة الكفر وأيمتِه، وإما في باطن النفُوس مثلُ شياطين الوسواس الذين قال الله فيهم‏:‏ ‏{‏ومن يعش عن ذكر الرحمان نقيض له شيطاناً فهو له قرين‏}‏ ويأتي في سورة الزخرف ‏(‏36‏)‏‏.‏ ومعنى تقييضهم لهم‏:‏ تَقديرهم لهم، أي خَلْق المناسبات التي يتسبب عليها تقارن بعضهم مع بعض لتناسب أفكار الدعاةِ والقابلين كما يقول الحُكماء «استفادة القابل من المبدإ تتوقف على المناسبة بينهما»‏.‏ فالتقييض بمعنى التقدير عبارة جامعة لمختلف المؤثرات والتجمعات التي توجب التآلف والتحابّ بين الجماعات، ولمختلف الطبائع المكوَّنَةِ في نفوس بعض الناس فيقتضي بعضها جاذبيةَ الشياطين إليها وحدوثَ الخواطر السيئة فيها‏.‏ وللإِحاطة بهذا المقصود أُوثر التعبير هنا ب ‏{‏قيضنا‏}‏ دون غيره من نحو‏:‏ بَعثنا، وأرسلنا‏.‏

والتزيين‏:‏ التحسين، وهو يشعر بأن المزيَّن غير حسن في ذاته‏.‏ و‏{‏مَّا بَيْنَ أيْدِيهِم‏}‏ يستعار للأمور المشاهدة، وما خلفهم يستعار للأمور المغيبة‏.‏

والمراد ب ‏{‏مَّا بَيْنَ أيْدِيهِم‏}‏ أمور الدنيا، أي زينوا لهم ما يعملونه في الدنيا من الفساد مثل عبادة الأصنام، وقتل النفس بلا حق، وأكل الأموال، والعدول على الناس باليد واللسان، والميسر، وارتكاب الفواحش، والوأد‏.‏ فعوّدوهم باستحسان ذلك كله لما فيه من موافقة الشهوات والرغبات العارضة القصيرة المدى، وصرفوهم عن النظر فيما يحيط بأفعالهم تلك من المفاسد الذاتية الدائمة‏.‏

والمراد ب ‏{‏ما خلفهم‏}‏ الأمور المغيبة عن الحس من صفات الله، وأمور الآخرة من البعث والجزاء مثل الشرك بالله ونسبة الولد إليه، وظنهم أنه يخفى عليه مستور أعمالهم، وإحالتهم بعثة الرسل، وإحالتهم البعث والجزاء‏.‏ ومعنى تزيينهم هذا لهم تلقينهم تلك العقائد بالأدلة السفسطائية مثل قياس الغائب على الشاهد، ونفي الحقائق التي لا تدخل تحت المدركات الحسية كقولهم‏:‏ ‏{‏أإذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أئنا لمبعوثون أو آباؤنا الأولون‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 16، 17‏]‏‏.‏

و ‏{‏حق عليهم‏}‏ أي تحقق فيهم القول وهو وعيد الله إياهم بالنار على الكفر، فالتعريف في ‏{‏القَوْل‏}‏ للعهد‏.‏ وفي هذا العهد إجمال لأنه وإن كان قد ورد في القرآن ما يُعهد منه هذا القول مثل قوله‏:‏ ‏{‏أفمن حق عليه كلمة العذاب‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 19‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فحق علينا قول ربنا إنا لذائقون‏}‏

‏[‏الصافات‏:‏ 31‏]‏، فإنه يمكن أن لا تكون الآيات المذكورة قد سبقت هذه الآية‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فِي أُمَمٍ‏}‏ حال من ضمير ‏{‏عَلَيْهِم‏}‏، أي حق عليهم حالة كونهم في أمم أمثالهم قد سبقوهم‏.‏ والظرفية هنا مجازية، وهي بمعنى التبعيض، أي هم من أمم قد خلت من قبلهم حق عليهم القول‏.‏ ومثل هذا الاستعمال قول عمرو بن أُذينة‏:‏

إن تَك عَن أَحسن الصنيعة مأفو *** كاً ففي آخرينَ قد أُفِكوا

أي فأنت من جملة آخرين قد صُرفوا عن أحسن الصنيعة‏.‏

و ‏{‏مِن‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏مِنَ الجِنِّ والإنْسِ‏}‏ بيانية، فيجوز أن يكون بياناً ل ‏{‏أُمَمٍ‏}‏، أي من أمم من البشر ومن الشياطين فيكون مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال فالحق والحق أقول لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 84، 85‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 38‏]‏ ويجوز أن يكون بياناً ل ‏{‏قُرَنَاءَ‏}‏ أي ملازمين لهم ملازمة خفية وهي ملازمة الشياطين لهم بالوسوسة وملازمة أيمة الكفر لهم بالتشريع لهم ما لم يأذن به الله‏.‏

وجملة ‏{‏إنَّهُم كَانُوا خاسرين‏}‏ يجوز أن تكون بياناً للقول مثل نظيرتها ‏{‏فحق علينا قول ربنا إنا لذائقون‏}‏ في سورة الصافات ‏(‏31‏)‏، ويجوز أن تكون مستأنفة استئنافاً بيانياً ناشئاً عن جملة ‏{‏وحَقَّ عَلَيهِم القَوْلُ في أُمَمٍ‏}‏ والمعنيان متقاربان‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏26‏]‏

‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآَنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ‏(‏26‏)‏‏}‏

عطف على جملة ‏{‏وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 5‏]‏ عطفَ القصة على القصة، ومناسبة التخلص إليه أن هذا القول مما ينشأ عن تزيين قرنائهم من الإِنس، أو هو عطف على جملة ‏{‏فَزَيَّنُوا لَهُم‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 25‏]‏‏.‏ وهذا حكاية لحال أخرى من أحوال إعراضهم عن الدعوة المحمدية بعد أن وصف إعراضهم في أنفسهم انتقل إلى وصف تلقينهم الناس أَساليب الإِعراض، فالذين كفروا هنا هم أيمة الكفر يقولون لعامتهم‏:‏ لا تسمعوا لهذا القرآن، فإنهم علموا أن القرآن كلام هو أكمل الكلام شريفَ معاننٍ وبلاغةَ تراكيبَ وفصاحةَ أَلفاظٍ، وأيقنوا أن كل من يسمعه وتُداخل نفسَه جزالةُ ألفاظه وسُمُوُّ أغراضه قضى له فهمُه أنه حق إتباعُه، وقد أدركوا ذلك بأنفسهم ولكنهم غالبتهم محبة الدوام على سيادة قومهم فتمالؤوا ودبروا تدبيراً لمنع الناس من استماعه، وذلك خشية من أن تَرقَّ قلوبهم عند سماع القرآن فصرفوهم عن سماعه‏.‏

وهذا من شأن دعاة الضلال والباطل أن يكُمُّوا أفواه الناطقين بالحق والحجة، بما يستطيعون من تخويف وتسويل، وترهيب وترغيب ولا يَدعوا الناس يتجادلون بالحجة ويتراجعون بالأدلة لأنهم يوقنون أن حجة خصومهم أنهَضُ، فهم يسترونها ويدافعونها لا بمثلها ولكن بأساليب من البهتان والتضليل، فإذا أعيتهم الحِيَل ورأوا بوارق الحق تخفق خَشُوا أن يعُمَّ نورُها الناسَ الذين فيهم بقية من خير ورشد عدلوا إلى لغو الكلام ونفخوا في أبواق اللغو والجعجعة لعلهم يغلبون بذلك على حجج الحق ويغمرون الكلام القول الصالح باللغو، وكذلك شأن هؤلاء‏.‏

فقولهم‏:‏ ‏{‏لاَ تَسْمَعُوا لهذا القُرْءَانِ‏}‏ تحذيراً واستهزاء بالقرآن، فاسم الإِشارة مستعمل في التحقير كما فيما حُكي عنهم ‏{‏أهذا الذي يذكر آلهتكم‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 36‏]‏‏.‏ وتسميتهم إياه بالقرآن حكاية لما يجري على ألسنة المسلمين من تسميته بذلك‏.‏ وتعدية فعل ‏{‏تَسْمَعُوا‏}‏ باللام لتضمينه معنى‏:‏ تَطمئنوا أو تركنوا‏.‏

واللغو‏:‏ القول الذي لا فائدة فيه، ويسمى الكلام الذي لا جدوى له لغواً، وهو واوي اللام، فأصل ‏{‏وَالغَواْ‏}‏‏:‏ والغَوُوا استثقلت الضمة على الواو فحذفت والتقى ساكنان فحذف أولهما وسكنت الواو الثانية سكوناً حيًّا، والواو علامة الجمع‏.‏ وهذا الجاري على ظاهر كلام «الصحاح» و«القاموس» في «الكشاف» أنه يقال‏:‏ لَغِي يلغَى، كما يقال‏:‏ لغَا يلغُو فهو إذن واويٌ ويائيٌ‏.‏ فمعنى ‏{‏وَالغَوْاْ فِيهِ‏}‏ قُولوا أقوالاً لا معنى لها أو تكلموا كلاماً غير مراد منه إفادة أو المقصود إحداث أصوات تغمر صوت النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن‏.‏ ولما كان المقصود بتخلُّل أصواتهم صوتَ القارئ حتى لا يفقهه السامعون عُدّي اللغو بحرف ‏(‏في‏)‏ الظرفية لإِفادة إيقاع لغوهم في خلال صوت القارئ وُقوع المظروف في الظرف على وجه المجاز‏.‏ وأدخل حرف الظرفية على اسم القرآن دون اسم شيء من أحواله مثل صوتتِ أو كلاممِ ليشمل كل ما يُخفي ألفاظ القرآن أو يشكك في معانيها أو نحو ذلك‏.‏

وهذا نظَم له مكانة من البلاغة‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ ‏"‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم وهو بمكة إذا قرأ القرآن يرفع صوته فكان أبو جهل وغيره يطردون الناس عنه ويقولون لهم‏:‏ لا تسمعوا له والغَواْ فيه، فكانوا يأتُون بالمُكاء والصفير والصياح وإنشاد الشعر والأراجيز وما يحضرهم من الأقوال التي يصخبون بها ‏"‏‏.‏ وقد ورد في «الصحيح» «أنهم قالوا لمّا استمعوا إلى قراءة أبي بكر وكان رقيق القراءة‏:‏ إنا نخاف أن يفتن أبناءنا ونساءنا»‏.‏

ومعنى ‏{‏لَعَلَّكُم تَغْلِبُونَ‏}‏ رجاءَ أن تغلبوا محمداً بصرف من يُتوقع أن يتبعه إذا سمع قراءته‏.‏ وهذا مشعر بأنهم كانوا يجدون القرآن غالبَهم إذ كان الذين يسمعونه يُداخل قلوبهم فيؤمنون، أي فإن لم تفعلوا فهو غالبكم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏27- 28‏]‏

‏{‏فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏27‏)‏ ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ‏(‏28‏)‏‏}‏

دلت الفاء على أن ما بعدها مفرع عما قبلها‏:‏ فإمّا أن يكون تفريعاً على آخِر ما تقدم وهو قوله‏:‏ ‏{‏وقَالَ الذينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لهذا القُرآن‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 26‏]‏ الآية، وإمّا أن يكون مفرعاً على جميع ما تقدم ابتداء من قوله‏:‏ ‏{‏وقالوا قلوبنا في أكِنَّة مما تَدْعُونا إليه‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 5‏]‏ الآية وقوله‏:‏ ‏{‏فَإِنْ أَعْرضُوا‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 13‏]‏ الآية وقوله‏:‏ ‏{‏ويَوْمَ نَحْشر أعداء الله إلى النَّار‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 19‏]‏ الآية وقوله‏:‏ ‏{‏وَقَيَّضْنَا لهم قُرَنَاءَ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 25‏]‏ الآية وقوله‏:‏ ‏{‏وقال الذين كفروا لا تسمعوا‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 26‏]‏ الخ‏.‏ وعلى كلا الوجهين يتعين أن يكون المراد ب ‏{‏الَّذِينَ كَفَرُوا‏}‏ هنا‏:‏ المشركين الذين الكلام عنهم‏.‏

ف ‏{‏الَّذِينَ كَفَرُوا‏}‏ إظهار في مقام الإِضمار لقصد ما في الموصول من الإِيماء إلى علة إذاقة العذاب، أي لكفرهم المحكي بعضه فيما تقدم‏.‏ وإذاقة العذاب‏:‏ تعذيبُهم، استعير له الإِذاقة على طريق المكنية والتخييلة‏.‏ والعذاب الشديد عن ابن عباس‏:‏ أنه عذاب يوم بدر فهو عذاب الدنيا‏.‏

وعطف ‏{‏ولنَجْزِيَنَّهُم أسوَأَ الذي كانُوا يعمَلُونَ‏}‏ عن ابن عباس‏:‏ لنجزينهم أسوأ الذي كانوا يعملون في الآخرة‏.‏ و‏{‏أسوَأَ الذي كانُوا يعمَلُونَ‏}‏ منصوب على نزع الخافض‏.‏ والتقدير‏:‏ على أسوأ ما كانوا يعملون، ولك أن تجعله منصوباً على النيابة عن المفعول المطلق تقديره‏:‏ جزاء مماثلاً أسوأَ الذي كانوا يعملون‏.‏

وأسوأ‏:‏ اسم تفضيل مسلوب المفاضلة، وإنما أريد به السّيئ، فصيغ بصيغة التفضيل للمبالغة في سوئه‏.‏ وإضافتُه إلى ‏{‏الذي كانُوا يعمَلُونَ‏}‏ من إضافة البعض إلى الكل وليس من إضافة اسم التفضيل إلى المفضل عليه‏.‏

والإِشارة ب ‏{‏ذلك جَزَاءُ أعْدَاءِ الله‏}‏ إلى ما تقدم وهو الجزاء والعذاب الشديد على أسوأ أعمالهم‏.‏ وأعداءُ الله‏:‏ هم المشركون الذين تقدم ذكرهم بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويَوْمَ نَحْشُر أعْدَاءَ الله‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 19‏]‏‏.‏

والنار عطف بيان من جَزَاءُ أعْدَاءِ الله‏}‏‏.‏

و ‏{‏دَارُ الخُلْدِ‏}‏‏:‏ النار‏.‏ فقوله‏:‏ ‏{‏لَهُمْ فِيهَا دَارُ الخُلْدِ‏}‏ جَاء بالظرفية بتنزيل النار منزلة ظرف لدار الخلد وما دار الخلد إلاّ عين النار‏.‏ وهذا من أسلوب التجريد ليفيد مبالغة معنى الخلد في النار‏.‏ وهو معدود من المحسنات البديعية، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لقد كان لكم في رسول اللَّه أسوة حسنة‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 21‏]‏ وقول أبي حامد العتَّابي‏:‏

وفي الرحمان للضعفاء كافي ***

أي والرحمان كاف للضعفاء‏.‏

و ‏{‏الخلد‏}‏‏:‏ طول البقاء، وأطلق في اصطلاح القرآن على البقاء المؤبد الذي لا نهاية له‏.‏

وانتصب ‏{‏جَزَآءُ‏}‏ على الحال من ‏{‏دَارُ الخُلْدِ‏}‏‏.‏ والباء للسببية‏.‏ و‏(‏ما‏)‏ مصدرية، أي جزاء بسبب كونهم يجحدون بآياتنا‏.‏

وصيغة المضارع في ‏{‏يَجْحَدُونَ‏}‏ دالّة على تجدد الجحود حيناً فحيناً وتكرره‏.‏ وعدي فعل ‏{‏يَجْحَدُونَ‏}‏ بالباء لتضمينه معنى‏:‏ يُكذِّبون‏.‏ وتقديم ‏{‏بآياتِنَا‏}‏ للاهتمام وللرعاية على الفاصلة‏.‏